ما بعد العمل غير المرئي: إعادة تأطير الرعاية والتنمية - لينا أيوب
كانت الرعاية دائمًا أول مهنة عرفتها الإنسانية. فقبل تشكّل الدول أو الأسواق أو الاقتصادات الرسمية، كانت الرعاية هي التي تطعم، وتداوي، وتواسي، وتربّي، وتحافظ على استمرارية الحياة. لقد شكّلت البنية الصامتة التي قامت عليها المجتمعات. غير أنّ هذه البنية، عبر القرون، دُفعت إلى المجال الخاص، وأُضفي عليها طابع التأنيث، وجرت معاملتها كموارد متجددة بلا حدود، لا كنظام أساسي. وما كان يُعترف به يومًا بوصفه العمل الذي يتيح كل أشكال العمل الأخرى، أصبح مُطبَّعًا، وغير مرئي، ومسلَّمًا به.
وعالميًا، تستمر هذه المفارقة. تقدّر أوكسفام أنّ النساء يؤدّين 12.5 مليار ساعة يوميًا من عمل الرعاية غير المدفوع الأجر، وهو عمل تبلغ قيمته ما لا يقل عن 10.8 تريليونات دولار سنويًا إذا قُيِّم بأجر الحد الأدنى. وتحذّر منظمة العمل الدولية من تعمّق أزمة رعاية عالمية: فالتحوّلات الديموغرافية، وارتفاع معدلات الأمراض المزمنة، واتساع اللامساواة، وسياسات التقشّف، وتغيّر المناخ، جميعها توسّع احتياجات الرعاية بوتيرة أسرع مما تستطيع الدول والأسواق الاستجابة له. ويقع العبء بشكل غير متكافئ، تحدّده اعتبارات النوع الاجتماعي والطبقة والجغرافيا، والطرق التاريخية التي نظّمت بها المجتمعات إعادة الإنتاج الاجتماعي.
تقع تونس بثبات ضمن هذا المشهد العالمي، لكن ضغوطها الخاصة مميّزة. فخلف التقلبات السياسية والركود الاقتصادي، تكمن أزمة أكثر هدوءًا: يقوم نموذج التنمية برمّته على نظام رعاية وإعادة إنتاج اجتماعي شديد التحيّز جندريًا. تتحمّل النساء التونسيات، ولا سيما في المناطق الريفية والأسر منخفضة الدخل، مسؤولية ثلاثية: توليد الدخل، وتقديم الرعاية، وصيانة المجتمع المحلي. ويملأ عملهنّ الفجوات التي خلّصتها تقلّص الخدمات العامة، وخيارات السياسات المدفوعة بالتقشّف، واتساع الفوارق الجهوية. هذا العمل يحافظ على الأسر ويثبّت المجتمعات، لكنه يظل غير محسوب، وغير مدعوم، ومُقلَّل القيمة بنيويًا. إنه ليس هامشيًا ولا عرضيًا؛ بل هو المحرّك الخفي للاقتصاد التونسي.
تُسهم الاقتصاديات النسوية ونظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي في إضاءة هذه الحقيقة بوضوح. فالرعاية ليست عنصرًا ثانويًا في الاقتصاد؛ إنها بنيته التحتية غير المرئية. وتشمل إعادة الإنتاج الاجتماعي عمل تربية الأطفال، ودعم كبار السن، وإعالة الأسر، ورعاية الروابط العاطفية والاجتماعية، وصون المعارف الثقافية. ورغم أنّ جزءًا من هذا العمل يجري عبر مؤسسات عامة، فإنّ معظمه يتم داخل الأسر ويعتمد إلى حدٍّ كبير على وقت النساء غير المدفوع الأجر. وتستبعد المؤشرات الاقتصادية التقليدية—الناتج المحلي الإجمالي، ومعدلات التشغيل، ومقاييس الإنتاجية—هذا العمل باستمرار، فتستبعد معه مساهمات النساء. وكل ساعة تُنفق على رعاية غير مدفوعة هي ساعة تُنتزع من العمل المأجور، أو بناء المهارات، أو الراحة. ويُعدّ «فقر الوقت» هذا أحد أكثر محرّكات اللامساواة الجندرية استمرارًا وأقلّها اعترافًا.
تجسّد تونس هذا التوتر بجلاء. فالنساء يؤدّين أكثر من أربعة أضعاف عمل الرعاية غير المدفوع مقارنة بالرجال، بمعدل 17 ساعة أسبوعيًا وفقًا لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، وأكثر من ذلك بكثير في المناطق الريفية حيث تقلّ الخدمات. وتنعكس النتيجة في إحصاءات سوق العمل: فعلى الرغم من المستويات التعليمية المرتفعة، تبقى مشاركة النساء في سوق العمل من بين الأدنى في المنطقة. والعائق ليس نقص الرغبة في العمل؛ بل الاستحالة البنيوية للتوفيق بين العمل المأجور والعمل غير المعترف به اللازم للبقاء اليومي. ليست الموهبة هي القيد؛ بل الوقت.
قد يساعد إسناد قيمة نقدية للرعاية على إبراز حجمها، لكن لا يمكن اختزال الرعاية بالكامل في الأجور أو الناتج المحلي الإجمالي. فهي علائقية وعاطفية، متجذّرة في القرابة والمجتمع والتكافل. وفي الوقت نفسه، لم يعد العمل المأجور ترفًا أو طموحًا اختياريًا للنساء. ففي تونس ومعظم بلدان الجنوب العالمي، تجعل الضغوط الاقتصادية دخل النساء ضرورة لبقاء الأسر، حتى وهنّ يتحمّلن هذا العبء المزدوج بأدنى قدر من الاعتراف المؤسسي.
تتشكّل أزمة الرعاية في تونس بفعل قوى متداخلة عدة. فخدمات رعاية الأطفال محدودة، ومكلفة، أو ضعيفة التنظيم. كما أنّ خدمات رعاية المسنّين وذوي الإعاقة مجزّأة وغير متكافئة التوزيع، مع فجوات أوسع في المناطق الداخلية. وتواجه الأسر الريفية مسافات طويلة للوصول إلى الرعاية الصحية، ونقصًا مزمنًا في وسائل النقل، والعمل اليومي لتعويض غياب الخدمات—وهي ديناميات تزيد أعباء الرعاية غير المدفوعة. ويضيف تغيّر المناخ طبقات جديدة من الضغط: فارتفاع درجات الحرارة، وندرة المياه، والصدمات الزراعية تزيد الوقت اللازم لتأمين الاحتياجات الأساسية، وغالبًا ما تُحمِّل النساء والفتيات مزيدًا من العمل غير المدفوع. وفي الأثناء، تواصل سياسات الضبط المالي والتقشّف تقليص الاستثمار العام في الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، ما يعيد المسؤولية إلى الأسر.
في هذا السياق، يُنظَّم سوق العمل في تونس بهدوء حول الرعاية. إذ تتكدّس النساء في قطاعات غير رسمية أو مرنة ليس لأنها مرغوبة، بل لأنها تتيح الحد الأدنى من التوفيق مع مسؤوليات الرعاية: العمل الزراعي الموسمي، والإنتاج المنزلي، والخدمات غير الرسمية، والمشاريع الصغرى. تفتقر هذه الأشكال من العمل إلى الأمان والحماية الاجتماعية وأي آفاق حقيقية للترقّي. وهكذا يعيد الاقتصاد إنتاج اللامساواة الجندرية عبر بنية العمل المتاحة نفسها. وانخفاض مشاركة النساء في سوق العمل ليس خيارًا فرديًا؛ بل نتيجة نظامية.
تتجاوز الآثار نطاق الأسر. فالتغيّب عن العمل والاستنزاف المرتبطان بالرعاية يقلّلان الإنتاجية في القطاعين العام والخاص. ويتضرّر الناتج المحلي الإجمالي. وأي بلد لا يستطيع تعبئة نصف رأسماله البشري، رغم ارتفاع مستويات التعليم، سيقيّد حتمًا إمكاناته التنموية. القيد ليس القدرة، بل الوقت، والنظام الذي ينظّمه.
ومع ذلك، إذا كانت الرعاية هي الأساس غير المرئي للاقتصاد، فيمكنها أيضًا أن تكون أساس نموذج تنموي مختلف. فالاستثمار في الرعاية ليس عبئًا اجتماعيًا، بل فرصة استراتيجية. وتُظهر منظمة العمل الدولية أنّ الاستثمار في قطاع الرعاية يخلق وظائف أكثر من البنية التحتية التقليدية، وأنّ هذه الوظائف أكثر صمودًا أثناء الأزمات.
اقتصاد الرعاية ليس مجرد قائمة خدمات؛ بل يتطلب إرادة مؤسسية. تحتاج تونس إلى رعاية أطفال مجتمعية، وخيارات حضانة مدعومة ومنظَّمة، ومراكز نهارية وخدمات إراحة للمسنّين، وإعادة تأهيل ودعم للأشخاص ذوي الإعاقة، ونظام رعاية صحية أولية معزّز قادر على تخفيف عبء الرعاية غير المدفوعة عن الأسر. ومن دون هذه الركائز، تنهار الرعاية مجددًا في المجال الخاص، مُعزِّزة فقر الوقت واللامساواة البنيوية.
كما أنّ الوضوح القانوني أساسي. فما يزال عمل الرعاية المنزلية في تونس مُستبعَدًا إلى حدٍّ كبير من مجلة الشغل، وتكاد تنعدم إنفاذ العقود أو الحماية الاجتماعية. وسيشكّل التصديق على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 189 بشأن العمل اللائق للعمال المنزليين إشارة إلى تحوّل نحو الاعتراف بالرعاية بوصفها عملًا يستحق الحقوق والكرامة والتنظيم. إن إدماج عمال الرعاية المنزلية والمجتمعية في أنظمة الضمان الاجتماعي، وتوضيح التزامات أصحاب العمل، وتبسيط أنظمة التسجيل، من شأنه أن ينقل هذا القطاع الخفي تدريجيًا إلى الطابع الرسمي. فلا يمكن بناء اقتصاد رعاية على عمل غير مرئي؛ فالحقوق هي مدخل الاعتراف.
من هذا المنظور، تكون التوصيات الأجدى هي المتجذّرة في الواقع البنيوي التونسي، لا القوالب المستوردة. ويجب أن تبدأ الاستراتيجية الوطنية للرعاية بالقياس: مسوح منتظمة لاستخدام الوقت، ونِسَب الاعتماد على الرعاية، وموازنات مستجيبة للنوع الاجتماعي تعكس ديناميات الأسر الحقيقية. كما ينبغي لسياسات سوق العمل أن تعترف بالوقت بوصفه موردًا—من خلال ترتيبات مرنة، وإجازات والدية لكلا الوالدين، وتشديد إنفاذ القوانين ضد التمييز في أماكن العمل.
احدث المنشورات
الأرجنتين وصندوق النقد الدولي: تاريخ طويل من التبعية المالية والمقاومة الاجتماعية - توماس باتاغلينو