أزمة الدين العام: وجه آخر لانتهاك حقوق الإنسان – زياد عبد الصمد
زياد عبد الصمد
أزمة الدين العام: وجه آخر لانتهاك حقوق
الإنسان – زياد عبد الصمد
ليس الدين العام مجرد أرقام تتكدّس في
تقارير وزارة المالية أو على شاشات المصارف الدولية. إنه انعكاس لمسار اقتصادي
وسياسي طويل جعل مجتمعاتنا أكثر هشاشة، وحقوق الناس أقل ضمانًا. حين نتأمل أسباب
تضخم الدين في منطقتنا، نجد أنها ليست قدَرًا، بل نتيجة خيارات وسياسات تراكمت
لعقود.
لقد بنينا اقتصادًا ريعيًا يعتمد على
الخارج أكثر مما يعتمد على نفسه. الريوع النفطية، تحويلات المغتربين، والمساعدات
الدولية وفرت لبعض الوقت موارد سهلة، لكنها لم تُنشئ قاعدة إنتاجية صلبة، ولم
تحمِنا من الصدمات. ومع كل أزمة، كان الحل السهل هو الاستدانة.
في الوقت نفسه، ابتلعت النفقات الجارية من
رواتب ودعم وخدمة دين القسم الأكبر من الموازنات، فيما بقيت الإيرادات الضريبية
محدودة وغير عادلة. الضرائب في منطقتنا ليست تصاعدية، بل تقوم على الاستهلاك أكثر
من قيامها على الثروة أو الأرباح الكبرى، فتترك الفقراء والطبقات الوسطى يتحملون
العبء الأكبر بينما تنجو الشرائح الأكثر ثراءً من المساهمة العادلة.
ولا يمكن إغفال الفساد وضعف الحوكمة. جزء
من الدين تراكم لتمويل هدر وفساد بدل أن يذهب إلى استثمارات منتجة. وغالبًا ما
اقترضت دولنا بشروط مجحفة، فارتفعت كلفة الدين وتقلصت سيادتنا الاقتصادية. يضاف
إلى ذلك اختلال النظام المالي الدولي، بقواعده التجارية والتمويلية غير المتكافئة،
وأطر إعفاء الديون التي يقودها الدائنون، وضعف تمثيل الجنوب في المؤسسات المالية
الكبرى، والمشروطية التي تفرض التقشف وتستنزف القاعدة الضريبية عبر التدفقات
المالية غير المشروعة.
كل ذلك لا يبقى محصورًا في دفاتر
الحسابات. الدين العام يعيد تشكيل أولويات الدولة ويؤثر مباشرة في حقوق الناس.
كلما ارتفعت خدمة الدين، تقلّصت الموازنات المخصصة للتعليم والصحة والحماية
الاجتماعية والعمل اللائق. المستشفيات العامة تعاني، الأدوية الأساسية تختفي،
المدارس تفتقر إلى التمويل، وبرامج الدعم تتقلص تحت شعار “الإصلاح المالي”، بينما
تُترك الفئات الأكثر هشاشة وحدها في مواجهة الفقر والبطالة. وحين تخضع الدول
لإملاءات الدائنين، تُرهن سياساتها الاجتماعية والاقتصادية للخارج، فينتقص حق
الشعوب في تقرير مصيرها الاقتصادي.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نستسلم لصورة قاتمة.
هناك بدائل إذا ما توفرت الإرادة. إصلاح ضريبي عادل يفرض ضرائب على الأرباح الكبرى
والثروات والريوع بدل تحميل العبء للطبقات الوسطى والفقيرة. إعادة توجيه الإنفاق
نحو الاستثمار في الإنسان لا في خدمة الدين. إعادة هيكلة الديون بشروط منصفة تراعي
الحقوق الأساسية. مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والحوكمة. وبالطبع، بناء اقتصاد
منتج يقلص الحاجة إلى الاستدانة أصلًا عبر الزراعة والصناعة والتكنولوجيا وفرص
العمل.
هنا يبرز دور المجتمع المدني والإعلام.
ليسا متفرجين، بل قادران على كشف كلفة الدين على حياة الناس، والضغط من أجل شفافية
أكبر في الموازنات، وبناء رأي عام يرفض السياسات المجحفة ويطالب بمسارات أكثر
عدالة. الإعلام مدعو إلى كسر خطاب الأرقام الجافة وإظهار الوجه الإنساني للأزمة:
الأمهات اللواتي لا يجدن دواءً لأطفالهن، الطلاب الذين يتركون مدارسهم، والشباب
الذين يهاجرون بحثًا عن فرصة.
لقد بلغ دين منطقتنا 1.55 تريليون دولار
عام 2023. لكن التحدي الحقيقي ليس في حجمه فقط، بل في كيفية إدارته، وفي الخيارات
الاقتصادية التي جعلت الفئات الأضعف تتحمل العبء الأكبر. البحث عن بدائل أكثر
عدالة يتطلب إعادة النظر في المنظومة الضريبية، في دور الدولة، وفي أدوات التمويل
التي تضع التنمية وحقوق الإنسان في صدارة الأولويات.