Sep 19, 2025
أية مهمات جديدة للإعلام في مواجهة الكوارث المناخية؟ - حبيب معلوف
حبيب معلوف
كاتب وصحافي بيئي

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
حبيب معلوف

أية مهمات جديدة للإعلام في مواجهة الكوارث المناخية؟  - حبيب معلوف


في ظل الأرقام القياسية للكوارث المناخية المتصاعدة كل سنة، وما تتركه من ويلات وخسائر بشرية ومادية تطيح بكل المكتسبات التنموية التي عرفتها البشرية تاريخيا، وفي ظل التطورات التي رافقت وسائل التواصل والاتصال والايصال لاسيما مع تطور برامج الذكاء الاصطناعي والالكتروني، باتت تطرح على الإعلاميين المتابعين لقضايا البيئة وتغير المناخ الكثير من الأسئلة والتحديات. 

فكيف يحافظ الصحافي والاعلامي البيئي على صفته ورسالته كمتخصص وعلمي وموضوعي… في ظل كم هائل من التحديات زاد منها الذكاء الاصطناعي بدل أن يساهم في تذليلها. 

من بين هذه الأسئلة من أين تقصي الحقائق حول صحة التقارير والارقام، وكيف يمكن التدقيق ومعرفة الزائف منها والمفبرك، خصوصا في ظل تراجع أدوار الأمم المتحدة وتراجع دور الدول في دعم البحث العلمي والجامعات، مع تصاعد توظيف القطاع الخاص والشركات الكبرى في دعم البحث العلمي وفقا للمصالح التنافسية في الأسواق والقدرة السريعة والفائقة على توظيف الأبحاث في هذا الاتجاه التجاري والتسويقي، بغض النظر عن الانعكاسات على ديمومة الموارد او على زيادة التلوث والانبعاثات المسببة بتغير المناخ. 

في الكثير من المحافل الإعلامية يتم الترويج لقدرة الذكاء الاصطناعي على التطوير وتخريب تقسيم العمل التقليدي، حتى أن البعض تخوف من أن يتسبب استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام، بأن يتم الاستغناء عن الصحافيين، إذ لن يستطيع أحد أن ينافس هذا الذكاء الذي يستفيد من جمع وتنظيم  كم هائل من البيانات وأن يرتب مقالات مدهشة بالأرقام والمراجع والتواريخ وان يقوم هو نفسه بالمقارنات والتحليل والاستنتاج والتحذير والتوجيه وتغيير اتجاهات الراي العام...الخ  تماما كما كانت مهمة الاعلام والاعلاميين! 

بالإضافة إلى الحديث المتسارع والمتسرع عن قدرة الذكاء الاصطناعي على القيام بتفعيل الاقتصاد الدائري وعن قيام الروبوتات بالدخول الى اماكن شديدة التلوث لا يستطيع أن يدخالها الا رجل آلي مجهز باجهزة تحسس وقياس وتحليل وارسال للبيانات المطلوبة وتكليفه ببعض انواع المعالجة ايضا. والكثير من المهمات الاستقصائية المنافسة للعمل الصحافي الاستقصائي التقليدي عامة.

 

إذا سيفرض الذكاء الاصطناعي نفسه كمنافس شرس في الاستقصاء وجمع المعلومات وفي السرد التاريخي وفي تحليل البيانات ايضا. هذا التطور يمكن أن يضع الاعلامي أمام مأزق اخلاقي حرج، كيف يستعين به ومتى؟ ومأزق إضافي، كيف يخفي ويضلل بأنه استعان؟

 كما سيجبر الإعلامي على اللجوء الى الاسلوب القصصي لكي يخفي القوالب الجاهزة في التحليل، وهذا ما يفرض العودة الى الوراء الى ما قبل الكتابة العلمية المبنية على الأرقام والوقائع والتجارب وعلى ما كان يسمى ما قبل "الموضوعية"، هذه الاخيرة التي انطلقت كلغة مضادة لتلك القائمة على السرد والمشاهدة والتكهن والذاتية. 

هذا ما بدأ الإعداد له بعض المدربين الغربيين الذين يركزون على الأسلوب القصصي والسرد بحجة تبسيط المعلومات وجعلها أقرب إلى الجمهور ولإخفاء  القدرة على وضع محتوى يقوم على جمع المعلومات والأرقام التي تغني الموضوع، بغض النظر عن المصدر الذي بات في الكثير من النصوص الإعلامية القصصية لا يذكر لعدم إضعاف الجانب السردي والقصصي وللمحافظة  على الجانب التميّزي الذي يسعى إليه أي إعلامي يريد أن يكون هو نفسه متميزا أيضا. فالذي يبحث عن تميز نصه الإعلامي لا يضع استشهادات مذكورة في تقارير علمية قد تكون منشورة ومحللة بواسطة الذكاء الاصطناعي ومنشورة في أكثر من مكان ايضا. انه لتحد كبير يخلقه الذكاء الاصطناعي أمام اي اعلامي يسعى الى التفرد والمنافسة. بالإضافة الى السرعة في الحصول على المعلومات والتدقيق فيها وهي أيضا ميزة في الذكاء الاصطناعي لا يمكن منافستها.

من هنا قد تصبح انسنة النصوص او تحويل العلم الى قصة انسانية حل أو مخرج  ذائف قد تطيح برغبة الجمهور بحب الحقيقة على حب السرد، خصوصا أن الإعلام البيئي والمناخي هو إعلام كوارث في الجوهر، الاولوية فيه هي لمعرفة الحقيقة المجردة والعلمية وتحميل المسؤوليات والتحريض على المحاسبة وعلى تغيير النموذج الحضاري المسيطر والمسبب بالكوارث. وهذه هي الميزة التفاضلية للاعلامي ما بعد الذكاء الاصطناعي، الملتزم بالقضايا البيئية والمناخية وبالدفاع عن كل ما يهدد الحياة وديموتها واستدامة الموارد والحفاظ على التنوع في الطبيعة وبين المجتمعات.

قد ينصح الذكاء الاصطناعي نفسه الاعلامي بربط قضايا تغير المناخ بحياة الناس من مزارعين وصيادين وفلاحين وسكان المدن والقرى والسكان الأصليين… ويجعل من قصصهم ومعاناتهم قصصا فريدة ومؤثرة بدل مراقبة السياسات الحكومية ومراقبة المراقبين واستثمارات الشركات وتحميل المسؤوليات والدفع باتجاه المحاسبة ووقف الضرر ودفع التعويضات ….الخ وهنا يبرز مأزق جديد، كيف نكون اقرب الى الناس ومشاكلهم وكيف نستعيد مهمة التحريض على التغيير بعد كشف الأسباب والمتسببين وفضحهم بالمباشر، بلغة مباشرة ومقنعة دون الاستعانة بأساليب وادبيات السرد والبلاغة والتشبيه والاستعارة والتلميح والتورية.

يبقى الجانب المتعلق بالسرد الاستقصائي والصحافة الاستقصائية التي تذهب الى الميدان لتقصي الحقائق… والتي لن تخلو من تحديات الوصول الى بيانات قد تكون مفبركة، خصوصا أمام المشاريع الكبرى للمؤسسات الملوثة والمتسببة بانبعاثات والتي تكون من وقت انشائها قد حصنت نفسها بقوانين هي نفسها قد كلفت شركات استشارية حقوقية او قانونية لوضعها وقد تحول مستشاروها الى مستشارين عند المشرعين والسياسيين واصحاب القرار والإعلاميين معا. وهي نفسها التي تضع دفاتر الشروط للإنشاء والتشغيل والمراقبة والتعويض في حال حصول حادث او شكوى. وهي نفسها التي تزود السلطات المعنية بالمعلومات والبيانات حول التسربات  والانبعاثات، بعد أن تكون قد وضعت في القوانين ودفاتر شروط التلزيم إجراءات الوقاية وشروط السلامة وأجهزة القياس والمراقبة على عاتقها وعلى نفقتها خصوصا في البلدان النامية التي تضعف فيها أدوار الدولة على حساب تقوية قدرات الشركات الكبرى… وهذه كلها تجعل من الإعلامي الاستقصائي أداة في يدها، لا بل ناطقا باسمها ومدافعا عن مصالحها عن وعي أو عن غير وعي.

فبمن يستعين الإعلامي للتدقيق والاستقصاء اذا كان معظم الخبراء هم خبراء شركات في الأساس؟! بالمنظمات غير الحكومية؟ وماذا تفعل هذه الأخيرة عندما يصبح تمويلها جزء من مسؤولية الشركات تحت عنوان ما يسمى "المسؤولية الاجتماعية للشركات"، التي تخفف عن نفسها من دفع الضرائب الحقيقية والكبيرة بحجة انها تساعد الجمعيات والمجتمعات حتى تلك المناهضة لها والمناصرة لقضايا الناس؟! 

يمكن الزعم الآن أن مهمة نقل المعلومات والسرعة والسبق الإعلامي قد انتهت. مع أن هناك من يقول أن اعطاء هذه المهمة في جمع الأخبار وسرعة في بثها للاعلامي ما كان يجب أن تبدأ، لاسيما عند الصحافة اليومية المكتوبة، في كل قضايا ومجالات الإعلام، وخصوصا في الإعلام العلمي والبيئي المتخصص.  اليوم أكثر من اي يوم مضى، يفترض العودة الى مسألة المعرفة  الشاملة التي تتجاوز إشكالية المعلومة والمعرفة الرقمية. انها الكتابة الفكرية والفلسفية التي تراجع الخلفيات الفكرية للعلم وتطبيقاته التقنية والتكنولوجية. انها التي تراجع موضوعية المواضيع ومنهجية التحليل. انها المستعينة بفلسفة العلم وفلاسفته التي تراجع نظام القيم وتقيم المنتجات (في دورة حياتها) والاختراعات قبل تسويقها. انها صحافة الانحياز الى القيم الأصيلة والثقافة الشعبية للشعوب الأصلية التي باتت على وشك الانقراض بسبب تقدم ثقافة النمو والتقدم والاستثمار والاستهلاك غير المحدود التي دمرت الكوكب.

احدث المنشورات
Sep 30, 2025
النشرة الشهرية لشهر آب/أغسطس 2025 - وجوه الديون المتعددة: التحديات والبدائل
Sep 22, 2025
أزمة الدين العام: وجه آخر لانتهاك حقوق الإنسان – زياد عبد الصمد