Jan 22, 2021
في سُبل مواجهة الديناميات التخريبية في منطقة الحوض المتوسّطي

تبرز في الأحوال المتوسطية والشرق أوسطية اليوم ثلاث ديناميات سياسية، تخريبية.

الأولى، تخريبية بمعنى التدمير والقتل والتهجير والتدخّلات العسكرية. وهي تشمل ساحات ثلاث رئيسية: سوريا وليبيا واليمن. ففي البلدان الثلاثة التي تحوّلت ثوراتها المندلعة العام 2011 الى حروب طاحنة، تتواصل منذ سنوات المواجهات العسكرية بلا أفق حلول. وتتدخّل في المواجهات دول إقليمية (إيران والسعودية والإمارات وتركيا بشكل خاص) أو قوى عظمى (روسيا والولايات المتحدة الأمريكية) وصل بها الأمر الى حدّ الاجتياح واحتلال أجزاء من الجغرافيات الوطنية، كما هي الحال مع روسيا في سوريا.

كما تعرف الحروب المذكورة ظاهرة المرتزقة والميليشيات المتنقّلة من بلد الى آخر، وما يعنيه الأمر من سمة جديدة قد تصبح في صلب النزاعات المستقبلية واستخدام القوى المسلّحة من جنسيات مختلفة فيها لتصفية حسابات بين دول تحاذر التصادم المباشر.

وتعرف الحرب السورية، فوق ذلك، ظاهرة التهجير الكثيف والتبديل الديموغرافي لمناطق شاسعة، بحيث بات 30 في المئة من السكان تقريباً لاجئين خارج سوريا، و25 في المئة نازحين داخلها.

وطبعاً تؤدي الحروب الثلاث المذكورة الى خسائر بشرية واقتصادية فادحة والى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وصلت في الحال السورية الى مستوى ندر مثيله، بحسب الأمم المتحدة، منذ الحرب العالمية الثانية.

الدينامية التخريبية الثانية، سياسية، بمعنى أنها تهدف الى عرقلة تجارب التحوّل الديمقراطي أو منعها دفاعاً عن أنظمة قائمة أو عن جمود سياسي يُراد له الاستمرار والاستقرار.


يحصل ذلك في مصر منذ العام 2013 مع سطوة أجهزة الأمن والمخابرات وإمساك المؤسسة العسكرية بمفاصل السلطة، وفي العراق ولبنان الجزائر مع الثورات المضادة أو مع المناورات السياسية لإجهاض التغيير، وفي العديد من الدول الأخرى مع التضييق على الحرّيات بحجّة الاستقرار وحماية السيادة وغيرها من مقولات الأنظمة القمعية.


وفي هذا ما يهدّد التعدّد والحق بالتعبير والانتظام والمراقبة وسائر الحقوق المواطنية، ويمنع التداول السلمي للسلطة والمشاركة الشعبية الفاعلة في التأثير على السياسات والخيارات. ويمكن القول إن في كل ذلك ردّ من بعض الأنظمة على آثار الثورات التي شهدتها المنطقة في ذكراها العاشرة.


أما الدينامية الثالثة، فتخريبها حقوقي وسياسي، بمعنى أنها تكرّس انتهاك القانون الدولي وتحصّن مرتكبيه، وهي ترتبط بالتطبيع الجاري بين بعض الدول العربية، الإمارات والبحرين والمغرب (واحتمالات الأمر بالنسبة للسودان والسعودية وعُمان) مع إسرائيل، رغم رفض الأخيرة كل احترام لقرارات الأمم المتحدة ولشرعة حقوق الانسان ولاتفاقيات جنيف، واستمرارها في ممارسات الاحتلال والاستيطان وسرقة الأراضي والمنازل والمياه والحصار والتمييز العنصري في الأراضي الفلسطينية. ويهدف التطبيع بجوانب عدّة منه أيضاً الى حماية الأنظمة المطبّعة من كل انتقاد دولي أو عقوبات محتملة عند ارتكابها الجرائم أو الانتهاكات، كما هدف في حال المغرب الى نيل اعتراف أميركي بالسيادة على الصحراء الغربية المتنازع عليها والخاضعة لمسار تفاوضي برعاية الأمم المتّحدة.


في مواجهة هذه الديناميات التخريبية، ثمة تطوّران إيجابيّان أساسيّان تستمر حلقاتهما في التفاعل والتشابك رغم ما يتهدّد بعضها من مخاطر في عدد من البلدان.


فقد انتزعت المجتمعات في تونس والجزائر والعراق كما في ليبيا والسودان الكثير من الحقوق السياسية، وتوسّعت مساحات التعبير فيها، رغم محاولات الحدّ من ذلك بالتهديد والضغط والاعتقال والعنف الذي وصل حدّ الاغتيال في العراق وليبيا والسودان. وقد تولّت أجهزة رسمية أو ميليشيات مدافعة عن السلطات القائمة ممارسة العنف السياسي، لكنها لم تُفلح حتى الآن في إعادة الأمور الى سابق عهد القمع وإعلام الحزب الواحد ودعايته ومفردات لغته. ذلك أن التعبير بواسطة المدوّنات والصحف الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، والعلاقة الوثيقة بين "الداخل" في كل البلدان تقريباً و"الدياسبورا" أو الأقارب والمعارف والأصحاب والزملاء والرفاق السياسيين في "الخارج" (حيث يعيشون طوعاً أو قسراً سياسياً أو اقتصادياً) يُنتجان حيّزاً جديداً لم يعد من السهل السيطرة عليه أو خنقه. وهذا مكسب مهمّ ينبغي التركيز عليه وحمايته من محاولات الاختراق والابتزاز وكمّ الأفواه التي ما زالت أنظمة وتيارات ترغب بفرضها.


كما أن التوثيق والحملات المواطنية الحقوقية وبناء السرديّات البديلة عن سردية السلطة المهيمنة والتنسيق الإقليمي بين الموثّقين والكتّاب والناشطين في الحملات تَطوّر في الأعوام الأخيرة، وخلق أطراً ووسائل عابرة للحدود الوطنية في المنطقة بحيث بات يصنع تضامناً وتشابكاً ودفاعاً مشتركاً في الكثير من الأحيان عن مبادئ وحقوق منتزعة أو مكتسبة أو قائمة بفعل العمل منذ سنوات طويلة. وهذا بدوره إنجاز يجب تحصينه والدفاع عنه والاستمرار في تطويره.

 
وللقيام بذلك، إن لجهة حماية المكتسبات والمدافعين والمدافعات عنها، أو من أجل تحصين الأطر الحقوقية والدستورية الحامية للمواطنين والمواطنات وتطوير الوسائل وآليات العمل لتعزيزها، من الضروري العمل على تشكيل كتل ضغط ومراصد وتحالفات بين ضفتي المتوسّط تكمل ما بدأت به عدة هيئات ومؤسسات من المجتمعات المدنية، مع تركيز على خمس أولويات لعدم تشتيت الجهود.


1- شبكات للحماية من الاعتقال والتعنيف السياسي: ويكون هدفها العمل مع المنظمات الإقليمية والدولية والبرلمان الأوروبي والهيئات الحقوقية والوسائل الإعلامية المهتمة (وعبر وسائل التواصل الاجتماعي) في بلدان الحوض المتوسطي وأوروبا من أجل الضغط السريع للإفراج عن كلّ من تتهدّده الاعتقالات التعسفية أو الاعتداءات المعنوية والجسدية، واستقطاب محامين وقانونيّين للمساعدة والترافع والدعم. والعمل على المدى البعيد لاستصدار قوانين أو تطبيق القائم منها لتجريم القمع واشتراط وقفه قبل أي تعاون إقتصادي أو عسكري بين الدول المعنية.
2- وضع الاقتراحات والآليات الدافعة لتوفير استقلالية القضاء (ولو تدريجياً) في الدول المتوسطية، بوصف ذلك شرطاً شارطاً لدولة الحق والقانون وضمانة لحماية الناس من جور السلطات السياسية أو من أي جور آخر. يضاف الى ذلك أن استقلالية القضاء تعني القدرة على مواجهة الفساد والانتهاكات بالقانون وتشجيع الحقوقيين على العمل وتوسيع أطر كفاحهم. ويتطلّب الأمر بالطبع تعاوناً بين الهيئات الحقوقية ونقابات المحامين ونوادي القضاة لتشكيل كتل ضغط وصياغة اقتراحات بغية تحويلها الى مشاريع قوانين.
3- العمل الدؤوب لربط مشاريع التنمية الاقتصادية بمسألة العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل والنمو المتوازن وخلق فرص العمل واحترام البيئة وحماية أنظمة الرعاية الصحية. وفي ذلك مصلحة مشتركة، في جنوب الضفة المتوسطية كما في شمالها، لما يوفّره الأمر من استقرار ومن حدّ من الهجرة غير الشرعية، ولمواجهة الأوبئة التي يمكن أن تتكرّر وتؤدّي الى تعاظم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.
4- تنظيم الحملات المشتركة التشريعية والرقابية المعزّزة لحقوق المرأة والمدافعة عنها، في جميع البلدان، ورفض الحكي بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية الهادفة الى التمييز في القوانين والممارسات ضد النساء، وإنشاء أوسع التحالفات في المنطقة وفي الحوض المتوسطي للعمل وفق أفق تغييري يحترم تطلّعات الأجيال الجديدة وما عبّرت عنه الثورات والانتفاضات العربية.
5- إنشاء مراصد وتحالفات بين المجتمعات المدنية في دول الحوض المتوسّطي للتأثير في صنع السياسات واعتماد وحدة المعايير في ما يخصّ احترام القانون الدولي واتفاقيات جنيف ومواثيق الأمم المتحدة وقراراتها، وإنهاء الحصانات التي تتمتّع بها دول وأنظمة متّهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة وجرائم ظلّ بقاؤها لعقود من دون عواقب أو تداعيات مدعاة للتشجيع على الاستمرار في ارتكابها. وفي ذلك ما شجّع ويشجّع التطرّف والعدمية والشعور بالمظلومية والتمييز وازدواجية المعايير. يسري الأمر على الاحتلال والاستيطان والتمييز العنصري في فلسطين، ويسري كذلك على الأنظمة العربية وغير العربية في قمعها لخصومها وللمواطنين والمواطنات عامة.

 
الأولويات المذكورة مصلحة لمجتمعات المنطقة جميعها، فانطلاقاً منها يمكن تحقيق الاستقرار الموازي لاحترام حقوق الانسان والقانون الدولي. وانطلاقاً منها يمكن السعي للحدّ من الهجرة غير الشرعية، ومن الأعمال الإرهابية. وهي في أي حال، أولويات ستبقى حاضرة لسنوات طويلة مقبلة.
 

بقاء الأمور على ما هي عليه اليوم غير مطمئن الى أحوال الشرق الأوسط والحوض المتوسطي في القادم من الأيام. وفي هذا مدعاة إضافية للمزيد من العمل والنشاط والتنسيق والضغط لتغيير المسارات والديناميات القائمة والتأثير في أفعال الدول والجماعات المعنية.


زياد ماجد (كاتب وإستاذ جامعي لبناني)
نشرت هذه المقالة مؤخرًا عبر مجالات
 
 
 

احدث المنشورات
Mar 27, 2024
تاريخ من المرض الهولندي: هل يستطيع لبنان التغلب عليه؟
Mar 22, 2024
ملحق لاستراتيجية شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية 2024-2025