Jul 31, 2025
قرار استشاري تاريخي لمحكمة العدل الدولية حول الكوارث المناخية - حبيب معلوف
حبيب معلوف
كاتب وصحافي بيئي

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
حبيب معلوف

قرار استشاري تاريخي لمحكمة العدل الدولية حول الكوارث المناخية - حبيب معلوف


بات هناك مرجعا للتقاضي حول الكوارث المناخية


أكد القرار الاستشاري التاريخي الصادر عن محكمة العدل الدولية في 23 تموز العام 2025، مسؤولية الدول عن مكافحة تغير المناخ وأن تمنع الضرر الذي يلحق بالنظام المناخي والتي عليها واجب بأن تعالج مشكلة الوقود الأحفوري، وأن الفشل في منع الضرر الذي يلحق بالمناخ قد يؤدي إلى إلزامها بدفع تعويضات.


ععند تقديم الوثيقة المكونة من 133 صفحة أمام قاعة محكمة في قصر السلام بلاهاي، قال رئيس محكمة العدل الدولية، يوجي إيوا ساوا، "إن الانهيار المناخي له عواقب وخيمة وبعيدة المدى، أثرت على النظم البيئية الطبيعية والبشر". معتبرا أن عواقب تغير المناخ تشكل "تهديدًا وجوديًا مُلحًا".


اتخذ القرار بالإجماع (15 قاضيا) مؤكدا مسؤولية الدول عن جميع أنواع الأنشطة التي تضر بالمناخ، مع "اتهامه" بشكل صريح "الوقود الأحفوري". وهذا يعني فتح الباب أمام معركة صريحة وواضحة مع الدول (والشركات) النفطية على انواعها.


ماذا يعني ذلك؟ التأكيد على دور الدول في اتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية النظام المناخي من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، ان من خلال الإنتاج او استهلاك الوقود الأحفوري، أو من خلال منح تراخيص استكشاف واستخراج الوقود الأحفوري أو التلزيم او تقديم الإعانات والقروض والتمويل (الوقود الأحفوري)… وان الفشل في ضبط هذه العمليات "قد يشكل عملاً غير مشروع دولياً تتحمل مسؤوليته تلك الدول".


رأى البعض أن هذا القرار بمثابة "وثيقة" ستكون أداةً حيويةً في مفاوضات المناخ المقبلة، ومن المرجح أن تُلهم المتضررين بإقامه دعاوى قضائية جديدة. صحيح أن الآراء الاستشارية غير مُلزمة من الناحية الفنية، لكنها تُعتبر مرجعيةً لأنها تُلخّص القانون القائم بدلًا من أن تُنشئ قوانين. المهم في الأمر، إن محكمة العدل الدولية فتحت الباب واسعا أمام إمكانية مقاضاة الدول الكبرى المسببة للانبعاثات والكوارث المناخية للمطالبة بتعويضات، قد تشمل إعادة بناء البنية التحتية المدمرة واستعادة النظم البيئية، فضلاً عن التعويض المادي النقدي.


قرار المحكمة يؤكد ان الوقود الأحفوري (من الفحم ونفط وغاز) هو المسبب الرئيسي في انهيار المناخ، كما ورد في التقارير الدولية ذات الصلة اصلا، لكن المتضررين قد يتحججون ويحاججون بانه لم يكن هناك أي ذكر للوقود الأحفوري في النص الرئيسي لاتفاقية باريس في عام 2015. وان مؤتمرات المناخ والدول المشاركة فيها لم تعلن عن "الانتقال بعيدًا" عن الوقود الأحفوري الا في الكوب 28 الذي عقد في دبي العام 2023 ، الذي اعتبرته غالبية البلدان اختياريا، وتم تجنب الحديث عنه في الكوب 29 في باكو العام الماضي، كما في المباحثات التمهيدية لبرنامج الكوب 30 التي عقدت في بون هذا العام!


ولطالما ذكرنا أن التسوية التي حصلت لإبرام اتفاقية باريس العام 2015 والمصادقة السريعة عليها عالميا، لم تكن لتحصل الا حين أفرغت من اي مضمون الزامي، لاسيما عند اعتماد صيغة "المساهمات المحددة وطنيا" وليس "الالتزامات". وهذا ما أضعف الحجج القانونية لمقاضاة الدول، لاسيما إذا تم تفسير تعبير مثل "مساهمة"، بان الدولة المعنية ليست معنية وحدها، وانها تساهم بما يستطيع وبما ترغب طوعيا، وان لا شيء يلزمها في النص لا في تخفيض الانبعاثات ولا في التعويض.


قالت المحكمة أيضًا إن الدول مسؤولة قانونًا عن تصرفات القطاع الخاص ويجب عليها تنظيم الأنشطة المؤسسية التي ساهمت في أزمة المناخ. وهذا تفسير مفيد من اجل تحميل المسؤوليات، ويفترض أن ينطبق ايضا على مسألة نقل التكنولوجيا. تحججت الدول الكبرى حين تم مطالبتها بنقل التكنولوجيا النظيفة والبديلة (عن الوقود الاحفوري) مجانا وكتعويض (كما ورد في الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ العام 1992 التي اعترفت فيها البلدان المتقدم بمسؤوليتها التاريخية عن الانبعاثات وبضرورة نقل التكنولوجيا) تحججت فيما بعد في المفاوضات الدولية، بان القطاع الخاص هو الذي طور تكنولوجيا الطاقة المتجددة وان لا سلطة عليها من الدول لمطالبتها بنقلها الى البلدان النامية! مع العلم أن دعم البحث العلمي في الدول المصنفة متقدمة تاريخيا، كان من الدول ودافعي الضرائب، وان المواد الأولية واليد العاملة لهذه الصناعة هي في معظمها من البلدان النامية! فكيف سيتم الاستفادة من قرار المحكمة الدولية لإعادة الاعتبار لدور الدول ومسؤوليتها في ادارة شؤون الموارد والناس حول العالم وضبط اتجاهات الخصخصة المتفلتة من كل مسؤولية كوارثية وكل قيد؟ مع التأكيد على المسؤولية التاريخية للدول المتقدمة؟ واي دور يفترض أن يلعبه المجتمع المدني لإعادة الاعتبار لأداور ومسؤوليات الدول والامم المتحدة معا.


حصل الأمر نفسه مع بداية البحث عن من يتحمل مسؤولية التعويض عن "الخسائر والاضرار" التي ستنجم عن الكوارث المناخية غير الطبيعية. كان جواب المفاوضين الاميركيين تاريخيا، بان شركات التأمين هي التي يفترض أن تعالج هذه المسالة، وقد بينت الحرائق التي ضربت بعض الولايات الاميركية العام الماضي، أن شركات التأمين لم تستطع أن تغطي سوى القليل من قيمة التعويضات المستحقة لأضرار الكوارث للمؤمنين الذين يقل عددهم سنويا مع ارتفاع كلفة التأمين سنويا بسبب زيادة المخاطر من زيادة الكوارث المناخية. وعلى سبيل المثال، تسببت الحرائق في جنوب كاليفورنيا في بداية هذا العام، بحسب تقديرات صحيفة ايكونوميست، 50 مليار دولار (هي الأعلى تاريخيا) لم تغط شركات التأمين سوى 20 مليار دولار من المؤمنين فقط ، حسب تقديرات "جي بي مورغان". مع العلم أن حصيلة كلفة الكوارث المناخية العام الماضي تجاوزت 300 مليار دولار، متجاوزة كل التقديرات السابقة، ومتجاوزة الأرقام السنوية المقدرة أثناء إقرار البند المتعلق بالخسائر والأضرار في قمة شرم الشيخ المناخية العام 2022 (الكوب 27).


فكيف سيتم ترجمة قرار المحكمة الدولية في التأكيد على مسؤولية الدول في التعويض عن الخسائر والأضرار في البلدان المتقدمة والنامية وللناس المؤمنين وغير المؤمنين (وهم الاكثرية) معا؟


تجدر الإشارة الى ان الأمم المتحدة كانت قد كلفت محكمة العدل الدولية بإعداد هذه الوثيقة في عام 2023 بعد سنوات من الحملات التي قامت بها مجموعة شبابية من طلاب القانون في جزر المحيط الهادئ والدبلوماسية التي قادتها دولة فانواتو في جزيرة المحيط الهادئ. وكانت المحكمة قد عقدت جلسة استماع امتدت أسبوعين في كانون الأول الماضي وحضرت على إثرها هذه الوثيقة.


أنكرت أكبر الدول المُصدرة للغازات الدفيئة في العالم مسؤوليتها عن اية التزامات تتجاوز اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ واتفاقية باريس التي أبرمت العام 2015. رفضت المحكمة هذه الحجة رفضًا قاطعًا، قائلةً إن مجموعةً من المعاهدات الأخرى تنطبق، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة المعنية بالبحار واتفاقية فيينا لحماية الأوزون واتفاقية التنوع البيولوجي ومكافحة التصحر … وكل الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالبيئة والمناخ. وذكرت المحكمة أن القانون الدولي العرفي ينطبق أيضًا، بما في ذلك مبادئ التنمية المستدامة، والمسؤوليات المشتركة، ولكن المتباينة، والإنصاف، والإنصاف بين الأجيال، ومبدأ الحيطة والحذر. وأضافت المحكمة أن على الدول أيضًا واجب العمل معًا لحماية المناخ، لأن العمل غير المنسق "قد لا يؤدي إلى نتيجة مجدية".


وقالت المحكمة إن البيئة النظيفة والصحية والمستدامة تشكل شرطا أساسيا لممارسة العديد من حقوق الإنسان، مثل الحق في الحياة، والحق في الصحة، والحق في مستوى معيشي لائق، بما في ذلك الحق بالوصول إلى المياه والغذاء والسكن.


كما استهدفت محكمة العدل الدولية الدول غير المنضمة إلى معاهدات تغير المناخ، او التي تنسحب منها قائلةً إنه لا يزال يتعين عليها إثبات توافق سياساتها وممارساتها المناخية مع جوانب أخرى من القانون الدولي. مع الاشارة هنا الى توقيع الرئيس الاميركي قرارا بالانسحاب من اتفاقية باريس للمرة الثانية، وتهديد قادة يمينيين باتخاذ مواقف مماثلة، واعتبار قضية تغير المناخ خدعة اشتراكية!


حصيلة قرار المحكمة إنها اعتبرت أزمة المناخ مشكلة عالمية لا يُعفي الدول من مسؤوليتها الفردية، وفتحت إمكانية للمتضررين من رفع دعاوى قانونية تتعلق بالمناخ ضد المتسببين فيها. بالرغم من هذا الباب الذي فتح، سيبقى هناك صعوبات كبيرة تتعلق بكيفية الاثبات او التمييز بين الكوارث الطبيعية وتلك المناخية. مع العلم أن إثبات وجود علاقة سببية تتعلق بالمناخ أصعب من إثبات حالة تلوث محلية… لكن المحكمة أكدت أن ذلك ليس مستحيلًا، مراهنة ربما على تطوير بحث علمي او على نموذج محاسبي او حسابي متفق عليه دوليا، يربط بين المعطيات وقياسات من انبعاثات محددة وما يقابلها من كوارث مناخية مع تقدير كلفتها. وفي كل الأحوال، أفادت محكمة العدل الدولية بأنه يجوز للمحاكم أن تأمر بتعويضات، بما في ذلك ترميم البنية التحتية والنظم البيئية. وفي الحالات التي يكون فيها الضرر غير قابل للإصلاح، يجوز المطالبة بتعويض.


محكمة العدل الدولية هي ثالث محكمة من بين أربع محاكم عليا تنشر وثيقة مماثلة بشأن أزمة المناخ. وقد خلصت المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان (IACHR) في وقت سابق من هذا الشهر إلى وجود "حق إنساني في المناخ"، وأكدت كلٌّ من المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان والمحكمة الدولية لقانون البحار على مسؤولية الدول القانونية في السيطرة على غازات الاحتباس الحراري.


في الخلاصة، لا تزال معركة المناخ وقضايا العدالة المناخية عامة في بدايتها، ويفترض أن يتطور الاهتمام بها مع تصاعد الكوارث للأسف. ويفترض ايضا مواكبتها على صعيد نشاط ونضال المجتمع المدني حول العالم، والضغط لأن يخصص لها في قمم المناخ حيزا واسعا للنقاش. كما يفترض الاجتهاد أكثر لإعادة إحياء فلسفة ومبادئ قانونية عالمية مثل "مبدأ التجنب والاحتراس" ومنحها الاولوية على مبادئ عالمية اخرى مثل "مبدأ الملوث يدفع". فماذا ينفع العالم التعويض على خسائر لا تعوض أن في الأرواح او في الأنواع.


خلفيات الحدث


في أيلول/سبتمبر العام 2021، أعلنت دولة فانواتو ( دولة جزرية في المحيط الهادئ) أنها ستطلب رأيا استشاريا من المحكمة بشأن تغير المناخ. وتم استلهام هذه المبادرة من مجموعة شبابية باسم: "طلاب جزر المحيط الهادئ يكافحون تغير المناخ"، والتي أكدت ضرورة العمل على معالجة تغير المناخ، لا سيما في الدول الجزرية الصغيرة. وبعد أن ضغطت فانواتو على الدول الأعضاء الأخرى في الأمم المتحدة لدعم هذه المبادرة في الجمعية العامة، اعتمدت الجمعية في 29 آذار/مارس 2023 قرارا يطلب رأيا استشاريا من محكمة العدل الدولية بشأن مسألتين: ما هي التزامات الدول بموجب القانون الدولي بضمان حماية البيئة؟ وما هي العواقب القانونية المترتبة على الدول بموجب هذه الالتزامات عندما تُلحق ضررا بالبيئة؟ يسمح ميثاق الأمم المتحدة للجمعية العامة أو مجلس الأمن بطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية.


ورغم أن الآراء الاستشارية غير مُلزمة، إلا أنها تحمل سلطة قانونية وأخلاقية كبيرة، وتساعد في توضيح وتطوير القانون الدولي من خلال تحديد الالتزامات القانونية للدول.


تعد هذه أكبر قضية تنظر فيها محكمة العدل الدولية على الإطلاق، كما يتضح من عدد البيانات المكتوبة والتي بلغت 91، والدول التي شاركت في المداولات الشفوية، ووصل عددها إلى 97 دولة.


احدث المنشورات
Jul 25, 2025
النشرة الشهرية لشهر حزيران/يونيو 2025 -الجنوب العالمي من إشبيلية: إعادة النظر في الديون والتمويل والتنمية
Jul 24, 2025
فشل المؤتمرات الدولية وتمويل التنمية: آن أوان البحث عن حلول من الداخل - زياد عبد الصمد