Sep 10, 2024
الحوار: رهان أم إرتهان؟ - يسري مصطفى

الحوار: رهان أم إرتهان؟ - يسري مصطفى


شهد مفهومُ الحوارِ صعودًا ملحوظًا منذ نهاياتِ القرنِ الماضي، ليصل إلى ذروته خلال العقد الأول والثاني من القرن الحالي، وقد تعددت توصيفاتُ الحوار لتشملَ حوارَ الحضاراتِ والحوارَ الثقافي والاجتماعي والسياسي والوطني وحوارَ الأجيالِ إلخ. وبموازاةِ ذلك حظي موضوعُ "الحوار" بمكانةٍ كُبرى في مجالِ السياسةِ وفي الخطاباتِ الدينيةِ والثقافية، كما أصبح أحدَ الموضوعاتِ الأساسيةِ في مجالِ التنميةِ البشريةِ كمادةٍ للتدريبِ وتطويرِ القدرات. وهكذا أضحى "الحوار" أكثرَ من مجردِ كلمةٍ أو وسيلةٍ للتواصل، حيث يعتبره البعضُ "قيمةً" في حدِ ذاته، ويراه آخرونَ استراتيجيةً للتغيرِ الثقافي أو السياسي أو الديني. وفي الحقيقةِ أنَّ هذا الصعودَ غيرَ المسبوقِ لمفهومِ "الحوار"، والذي تعززَ بأيديولوجيا "حوارِ الحضارات"، يطرح تساؤلاتٍ حول ماهيته كمفهومٍ وجدواه كاستراتيجيةٍ للتغيير. وفي هذا المقالِ نُلقي بعضَ الضوءِ على طبيعةِ المفهومِ، وسياقاتِ استخدامهِ، وآلياتِ توظيفهِ.


بدايةً، وكما سبق الإشارة، فإنَّ كلمةَ الحوارِ قديمة، ولكنها شهدت تحولًا اصطلاحيًا في العقودِ الأخيرة، حيث سعى البعضُ إلى إعطاءِ الكلمةِ صبغةً مفاهيميةً لتمييزها عن مفاهيمَ أخرى كالجدلِ والتفاوضِ والمناظرة. وقد تزامنَ هذا الاهتمامُ الحديثُ والراهنُ مع تراجعِ الأيديولوجياتِ الكُبرى لليسارِ واليمين، وتعاظمَ الاهتمامُ بقضايا الحضاراتِ والتنوعِ الثقافي والأديانِ وسياساتِ الهوية، وفي هذا السياقِ التاريخي خرجَ الحوارُ من دائرةِ الكلماتِ إلى دائرةِ المفاهيم، وبالمعنى الأيديولوجي تحولَ إلى قيمةٍ ينبغي الحفاظُ عليها، وهدفٍ ينبغي الوصولُ إليه واستراتيجيةٍ يتوجب على قوى التغيير فهمها وتبنيها وتطبيقها، فهو نقطةُ التقاءِ الحضاراتِ، ومنطقةُ تعايشِ أتباعِ الأديان، وحَيزُ تواصلِ فرقاءِ السياسة، ومعبرُ تفاهمِ الأجيال. وهذا الزخمُ الذي حظي به مفهومُ "الحوار" جعله من المُسلَّماتِ على المستوى الدولي والمحلي وحتى على المستوياتِ القاعدية، ليكون بذلك الملاذَ الأمثلَ والمتاحَ وغيرَ التصادمي للتغيير، وبديلًا عن الوسائلِ التقليديةِ المعروفة التي كانت تتبع مساراتٍ أكثرَ صدامية لتغيير موازينِ القوى والدفاعِ عن المصالحِ والحقوق.


وعلى موائدِ الحوار تأتي موضوعاتٌ أو ما نُطلق عليه "أجندة الحوار"، ولكن هذا الأمرُ كذلك يطرح تساؤلاتٍ. فمن ناحيةٍ أولى عندما ينظر البعضُ إلى "الحوار" بوصفه قيمةً وهدفًا، فإنَّ جلوسَ الفرقاءِ أو أطرافِ الحوارِ على مائدةِ الحوار قد يكون كافيًا بغضِّ النظرِ عن النتائجِ، والتي عادةً ما تكون هامشيةً، وهذا ما نلحظه في العديد من الحواراتِ التي يتم تنظيمُها تحتَ شعاراتِ حواراتِ أتباعِ الأديان أو الحواراتِ الوطنية، وكأنَّ المسألةَ تشبه مقولةَ أنَّ "سنَّ القوانينِ يُغني عن تطبيقها". ومن ناحيةٍ ثانية، وخاصةً فيما يتعلقُ بالحواراتِ السياسيةِ الوطنية، فإنَّ الكثيرَ من موضوعاتِ الحوار هي أمورٌ من المفترضِ أنها محلُّ توافقٍ وملزمةٌ ولا تحتاجُ إلى حوارٍ وإنما إلى إرادةِ تنفيذ، ومن ذلك قضايا من المفترضِ أن تكونَ ملزمةً دستوريًا أو بحكم الالتزام بالتعهداتِ الدولية، أو تكونَ متضمنةً في استراتيجياتٍ وطنية. وهذا ما يطرح تساؤلًا بديهيًا: ما هو الهدفُ من الحوار إذن؟ وما الذي يمكن أن يضيفَه إلى ما هو معلومٌ دستوريًا ومنطقيًا وربما أخلاقيًا؟


تبقى نقطةٌ ثالثةٌ، تتعلقُ بأطرافِ الحوار، وبمفهومِ التمثيلِ  Representation وهذه مسألةٌ ترتبط بنوعِ الحوار، فحواراتُ الثقافاتِ والحضاراتِ والأديان يكون التمثيلُ فيها على أساسِ الهويةِ الثقافيةِ أو الدينيةِ أو العرقية، وهذه معادلةٌ سهلةٌ، ومع ذلك يمكن أن تكونَ خادعةً، حيث يحدث كثيرًا أن يتمَّ اختزالُ مجتمعاتٍ شديدةِ التنوعِ والاختلافِ في تمثيلٍ دينيٍّ حصري، وهذا ما نلحظه في التعاملِ مع المجتمعاتِ التي تدينُ الأغلبيةُ فيها بالإسلام، فيتمُّ اختزالُها في تمثيلٍ دينيٍّ إسلامي، وفي هذا إخفاءٌ للواقعِ وتنميطٌ. وقد تكونُ الأمورُ أكثرَ تعقيدًا فيما يتعلقُ بالحواراتِ السياسيةِ الوطنية، حيث يتشكلُ أطرافُ الحوارِ من أصحابِ هوياتٍ سياسيةٍ عادةً ما يفتقرونَ إلى ما يكفي من رأسمالٍ سياسيٍّ أو اجتماعي، فهم يمثلونَ هوياتٍ أو توجهاتٍ أكثرَ مما يمثلونَ قوى اجتماعيةً فعليةً. وبهذا يصبحُ الحوارُ صورةً منفصلةً عن الواقعِ، مشهدًا قد تكونُ وظيفتُه الحجبَ وليس الإظهار.


إنَّ الحوار، بهذا المعنى، يعكس فجوةً بين الصورةِ والواقع. وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ الدلالاتِ السياسيةَ والثقافيةَ لمفهومِ الحوارِ التي تُشكل المشهدَ الحواري، تختلفُ إلى حدٍّ كبير عن الدلالاتِ في الثقافةِ الشعبيةِ التي تعكسُ الواقع. ففي مصر، على سبيلِ المثال، فإنَّ كلمةَ الحوارِ في الثقافةِ الشعبيةِ وخاصةً لدى الأجيالِ الشابةِ تبدو مناقضةً تمامًا للدلالاتِ الثقافيةِ والسياسيةِ التي يسعى أنصارُ الحوارِ إلى ترويجِها وتسويقِها. فكلمةُ الحوارِ في الثقافةِ الشعبيةِ المصريةِ تحمل دلالاتِ المراوغةِ والمماطلةِ والتحايلِ وكلها ذاتُ طابعٍ سلبيٍّ، وربما يكونُ بعضها مستمدًا من لعبةِ كرةِ القدمِ والتي يكون فيها المحاورُ الجيدُ هو من يمتلكُ القدرةَ على الاختراقِ والمراوغة. وهنا تبدو الفجوةُ بين خطاباتِ الحوارِ في المجالِ الفكريِّ والسياسيِّ، ومجالِ الثقافةِ الشعبيةِ والممارساتِ الاجتماعية.


أختم، مستعيرًا أحدَ المفاهيمِ التي صاغها سيجموند فرويد، وهو مفهومُ الذكرياتِ المُقنَّعة (من قناع) أو الحاجبة (من حجب) وهي ترجمةٌ لمفهومِ  Screen Memory والذي يعني أنَّ ذكرياتِ الطفولةِ قد يتمُّ استرجاعُها بشكلٍ خادعٍ أو بطريقةٍ تُضخِّمُ أو تُقلِّلُ من أهميةِ الحدثِ الأصلي، وبالتالي إخفاءُ ذكرى أخرى ذاتِ أهميةٍ أكبرَ أو أعمق. فهل يمكن وصفُ "الحوار" بأنَّه استراتيجيةٌ مُقنَّعةٌ أو حاجبة؟ إذا افترضنا أنَّ الحوارَ يُنظرُ إليه كهدفٍ بحدِّ ذاته، وإذا كانت موضوعاتُ الحوارِ من القضايا التي ينبغي أن تكونَ ملزمةً، وإذا كان تمثيلُ أطرافِ الحوارِ بلا رأسمالٍ سياسيٍّ أو اجتماعي، فإنَّ الأمرَ لا يعدو كونَهُ مشهدًا حواريًّا أو Screen Dialogue، قد نرتهن به أو إليه، ولكن يصعبُ الرهانُ عليه.



يسري مصطفى


 




احدث المنشورات
Oct 06, 2024
منطقة مشتعلة - العدد العاشر
Oct 05, 2024
منطقة مشتعلة - العدد التاسع