النيوليبرالية والخطاب النسوي: بين الاستيعاب والمقاومة في السياق العربي بقلم جيهان أبو زيد
النيوليبرالية والخطاب النسوي: بين الاستيعاب والمقاومة في السياق العربي
بقلم جيهان أبو زيد
منذ مطلع التسعينيات، لم تقتصر النيوليبرالية في العالم العربي على كونها سياسة اقتصادية تفرض الخصخصة وتقلّص الدولة، بل اتخذت شكل بنية هيمنة ثقافية–رمزية أعادت تعريف مفاهيم مثل "التمكين"، و"النجاح"، و"الحرية" ضمن شروط السوق، لا شروط العدالة. وفي قلب هذا التحوّل، أُعيد إنتاج الخطاب النسوي بما يتلاءم مع مقتضيات "الجدارة الفردية" بدلًا من مساءلة البُنى الاجتماعية التي تُكرّس التمييز.
تتناول هذه الورقة هذا التحوّل بتفكيك جدله البنيوي: كيف تحالفت النيوليبرالية مع الابوية والاستبداد لإعادة قولبة النسوية العربية كأداة إدماج رمزي لا كقوة تفكيك بنيوي؟ وكيف تحوّل التمكين إلى أداء قابل للتسويق، والنجاح إلى مظهر قابل للتمثيل؟ وانطلاقًا من أدوات الاقتصاد السياسي النسوي، تُعيد الورقة تحليل هذا المسار كنمط خفي من الضبط الذاتي لا الاستبعاد الصريح.
لكنها لا تقف عند التشخيص. بل تُخصّص نصفها الثانى لرصد سرديات المقاومة النسوية التي تنهض رغم الهيمنة، وتُنتج أشكالًا مغايرة من العمل والتنظيم والخطاب، تتفاوت في أدواتها ومواقعها، لكنها تلتقي في رفض احتواء الذات داخل شروط السوق. من هنا، تصبح هذه الورقة دعوة لإعادة اختراع المسار: نحو نسوية تقاطعية تحرّرية تُعيد التمكين إلى جذره السياسي، وتربط بين حقوق النساء والعدالة الاجتماعية بوصفهما مشروعًا تحويليًا لا شعارًا ترويجيًا.
دخلت أغلب الدول العربية مع بداية التسعينيات، في مرحلة إعادة هيكلة اقتصادية بالتوازي مع انحسار نموذج الدولة التنموية، وتصاعد سياسات السوق الحر التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي. تجسّد هذا التحول في الخصخصة، تقليص الدعم، تحرير الأسواق، وتراجع الإنفاق الاجتماعي، في وقتٍ تزايد فيه الفقر، وتقلّصت الحماية النقابية، وازدادت الفجوة بين الشرائح الاجتماعية. كل ذلك جرى تحت شعارات "الإصلاح" و"التنمية المستدامة"، لكنه حمل في جوهره انقلابًا على فكرة العدالة الاجتماعية، ومن ضمنها العدالة بين الجنسين.
في هذا المناخ، برز خطاب جديد حول "تمكين المرأة"، لكنه أتى بتوجيهات دولية أو برعاية رسمية داخلية. تم التركيز في السياسات العامة على إدماج النساء في سوق العمل، وتسهيل حصولهن على التمويل الصغير، وتشجيع "المرأة الريادية" و"رائدة الأعمال"، مع إبراز نماذج نسائية ناجحة في الإعلام والقطاع الخاص. غير أن هذا الخطاب كان انتقائيًا، حيث تجاهل السياقات الطبقية والجغرافية للنساء، وركّز فقط على الشريحة المتعلّمة في المدن.
اللافت أن النيوليبرالية لم تتصادم بالضرورة مع البطريركية، بل كثيرًا ما تحالفت معها في إدارة الأعباء الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، مع انسحاب الدولة من تمويل التعليم والصحة، أُلقيت أعباء الرعاية على النساء داخل الأسر، دون أي دعم مؤسساتي أو حوافز. وعلى الرغم من دخول المزيد من النساء إلى سوق العمل، فإنّ غالبيتهن تعرّضن لأشكال متعددة من الاستغلال، مثل الأجور المتدنية، والعمل غير المنظم، وغياب التأمين الاجتماعي. هذا ما أدّى إلى ما يُعرف بـ"تانيث الفقر".
في موازاة ذلك، شهدت الساحة النسوية العربية تحوّلاً واضحًا. فقد توسعت المنظمات النسوية، لكن كثيرًا منها أصبح معتمدًا على التمويل الدولي، ما فرض ضغوطًا لتبنّي أولويات وأجندات "قابلة للتمويل" أكثر من كونها منبثقة عن نضال القاعدة الاجتماعية. تم استبدال النضال الجماعي من أجل المساواة بين الجنسين بمنهجيات "المشروع" و"المخرجات القابلة للقياس"، مما أضعف الطابع السياسي للخطاب النسوي.
بلغة نانسي فريزر، يمكن القول إن النسوية العربية في هذه المرحلة تعرّضت إلى "استيعاب ذكي" داخل المنظومة النيوليبرالية: استُخدمت في تجميل وجه الدولة أو فتح أسواق جديدة، دون أن يكون لها أثر حقيقي على البنى العميقة للتمييز واللامساواة. ففي مصر، على سبيل المثال، رُوِّج لسياسات "التمكين الاقتصادي للمرأة" بالتوازي مع قمع الحركات النسوية المستقلة. وفي المغرب، أُنجزت تعديلات قانونية محدودة، لكنها لم تُمسّ النظام الاقتصادي أو التفاوتات الإقليمية. أما في الخليج، فقد تَرافق الانفتاح الاقتصادي مع "مأسسة" دور المرأة في القطاعات الناعمة، لكن دون مساءلة عن نظام الولاية أو غياب التمثيل السياسي.
وهكذا، أُعيد تعريف "التمكين" بما يخدم الاستقرار السياسي وتوسيع السوق، لا بما يحرّر النساء من البنية الأبوية أو الهيمنة السلطوية. وهو ما سيُشكّل لاحقًا نقطة انطلاق لتمرد نسوي جديد، مع تفجّر الاحتجاجات العربية بعد 2011.
خلاصة هذه المرحلة أن النسوية لم تُقمع صراحة كما في الماضي، لكنها أُفرغت من مضمونها السياسى وأُعيد إنتاجها كخطاب إدماجي ناعم يخدم السوق ولا يزعج السلطة. وهو ما مهّد الطريق لاحقًا أمام تحوّل جديد.
الرجاء الضغط هنا لقراءة الورقة
احدث المنشورات
الحق في المياه في لبنان: أزمات اللامساواة والبيئة والتقشف - رولان رياشي