May 16, 2025
سياسات صندوق النقد الدولي وأثرها على مسارات التنمية بالمغرب - ماجدة دامو
ماجدة دامو
باحثة اقتصادية

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات

سياسات صندوق النقد الدولي وأثرها على مسارات التنمية بالمغرب - ماجدة دامو 


تقديم


يعتبر صندوق النقد الدولي أحد أبرز المؤسسات المالية العالمية التي تؤثر على السياسات الاقتصادية للدول، بما في ذلك المغرب. وقد عمل المغرب منذ انضمامه إلى الصندوق سنة 1958على جعل علاقته بهذا الأخير ترقى إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، كما قدم الصندوق على مدار العقود الماضية توصيات وإصلاحات اقتصادية هدفت إلى تحقيق الاستقرار المالي وتعزيز النمو الاقتصادي،  ذ شكّلت سياسات صندوق النقد الدولي أحد العوامل المؤثرة في التوجهات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى للمغرب منذ عقود، لكنها غالبًا ما أثارت جدلًا واسعًا بين منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، التي ترى أن هذه السياسات، بالقدر الذي تساهم في تعزيز النمو الاقتصادي، فهي تساهم بشكل كبير  في تعميق الازمات وتفاقم حدّة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين مختلف فئات وطبقات المجتمع. 


فكيف تطورت علاقات المغرب بصندوق النقد الدولي؟ وماهي طبيعة الحلول التي حملتها سياسات الصندوق لدعم النمو الاقتصادي للمغرب وتعزيز استقراره المالي؟ وكيف ينظر المجتمع المدني لتوصيات الصندوق وتوجهاته بالعلاقة بالاقتصاد المغربي وسيادة الغرب على ثرواته؟


1. نبذة تاريخية عن علاقة المغرب بصندوق النقد الدولي

تمتد علاقة المغرب بصندوق النقد الدولي لأكثر من ستة عقود. فمنذ انضمام المغرب إلى هذه المؤسسة المالية النقدية الكبرى سنة 1958، شهدت العلاقة تطورًا ملحوظًا على جميع المستويات، بدءًا بفترات التعاون العادي مرورًا بفترات من التعاون الوثيق خصوصا في أوقات الأزمات الاقتصادية، وصولاً إلى الشراكة الاستراتيجية التي تركز على الإصلاحات الهيكلية ودعم اتجاهات ومستويات النمو الاقتصادي.

في هذا السياق يمكن تحديد مسارات علاقة المغرب بصندوق النقد الدولي وسياسته المالية من خلال المراحل التالية: 


المرحلة التأسيسية (1958-1980)

وهي المرحلة التي رافقت سياق حصول المغرب على استقلاله وما يعنيه ذلك من حاجته الكبيرة إلى تدبير التحديات الاقتصادية لمرحلة ما بعد الاستعمار وبناء الدولة الحديثة، لذاك سيكون التركيز خلال هذه المرحلة على تقديم المشورة الفنية والمساعدات المحدودة، والتي استفاد خلالها المغرب من بعض التسهيلات الائتمانية المحدودة في إطار ما يسمى بـ"اتفاقية الاستعداد الائتماني".


مرحلة أزمة المديونية وبرامج التقويم الهيكلي (1980-1990)

مع تفاقم أزمة المديونية الخارجية في الثمانينيات من القرن الماضي نتيجة السياسات الاقتصادية المطبقة، لجأ المغرب إلى صندوق النقد الدولي للحصول على دعم مالي بهدف تحسين وضعه الاقتصادي، لينخرط في برنامج تثبيت مالي وتقويم هيكلي مع الصندوق سنة 1980، تلته عدة برامج أخرى ركزت في مجملها على: تحرير الأسعار، تخفيض العجز المالي، إصلاح النظام الضريبي، تحرير التجارة الخارجية، تقليل الانفاق العمومي وخوصصة القطاعات العامة. وقد أدت برامج الإصلاحات هذه إلى استقرار نسبي للاقتصاد الكلي، غير أن كلفتها الاجتماعية كانت ثقيلة على المستوى الاقتتصادي-الاجتماعي من خلال مساهمتها في تآكل الطبقة الوسطى والرفع من مؤشرات الفقر والبطالة وهو ما كان سببًا في اندلاع أحداث وتوترات اجتماعية كبرى عرفها المغرب آنذاك.


مرحلة الاستقرار والإصلاحات الهيكلية (1990-2010)

خلال هذه المرحلة، واصل المغرب تعاونه مع صندوق النقد الدولي، لكن بوتيرة أقل حدة مما كان عليه الامر في السابق، وقد ركزت مختلف البرامج المقترحة على تعميق الإصلاحات الهيكلية بشكل عام مع التركيز على القطاعين المالي والنقدي بشكل خاص، وهو ما جعل المملكة تتبنى نظام "سعر الصرف المرن الموجه" بداية التسعينات وتعمل على تعزيز استقلالية البنك المركزي وإعادة تموقعه داخل السياسة المالية للبلد. 

كما عرفت هذه المرحلة تطورًا مهمًا في مستوى العلاقة البينية من مستوى الشراكة العادية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، والتي ركّزت بشكل أساسي على دعم النمو الاقتصادي وتعزيزه. 

إاذ ستركز الإصلاحات المقترحة على: تحسين مناخ الأعمال، تعزيز الشمول المالي، وإصلاح نظام الدعم مع العمل على تطوير البنية التحتية، في إطار ما يعرف بـ"تسهيل النمو والحد من الفقر (PRGF)”.


مرحلة التعاون الحديث والسياسات التيسيرية (2011-2025) 

خلال السياق العام لسنة 2011 وما رافقه من أحداث وتوترات اجتماعية كبرى عرفها العالم والمنطقة العربية والمغاربية على حد سواء، سيعزز المغرب من تعاونه مع صندوق النقد الدولي في إطار ما يعرف ب"السياسات التيسيرية" للصندوق من خلال "خطة الوقاية والسيولة" (PLL) (2012 – 2016)، و"خطة التسهيلات المرنة" (FCL) (2019)، والتي وافق الصندوق من خلالها على منح تسهيلات مالية بقيمة 3 مليارات دولار لفائدة المغرب.

وقد ركز التعاون خلال هذه المرحلة على الإصلاحات التالية: 

تعزيز الصمود الاقتصادي وتحسين مناخ الاعمال لجذب الاستثمارالاجنبي

الإصلاحات الهيكلية وتعبئة المداخيل الضريبية

دعم الرقمنة والاقتصاد الأخضر

تعزيز الحماية الاجتماعية وتحويل الدعم الى نظام للمساعدة الاجتماعية المباشرة.


بدأ التعاون بين المغرب وصندوق النقد الدولي يأخذ طابعًا مؤسسيًا أكثر وضوحًا في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008. ففي سنة 2012، وقّع المغرب على ترتيب "خط السيولة الوقائي" (PLL) كإجراء احترازي لتعزيز احتياطاته الخارجية ومواجهة الصدمات الاقتصادية المحتملة. وقد أثبت هذا الترتيب فعاليته خلال جائحة كوفيد-19 عندما استخدم المغرب 3 مليارات دولار منه للحفاظ على مستويات كافية من الاحتياطيات وتخفيف الآثار السلبية للأزمة على النسيجين الاقتصادي والاجتماعي.


غير ان هذه الإصلاحات الهيكلية والسياسات التقشفية، وإن كانت قد ساهمت في استقرار نسبي للاقتصاد مع التحكم في نسبة التضخم، لكنها بالمقابل لم تحقق النمو المطلوب، إذ ظل معدل النمو دون نسبة 4 بالمائة، بينما استمرت معدلات البطالة في الارتفاع، وخاصة في صفوف الشباب، ناهيك عن محدودية أثر تلك الإصلاحات في قطاعات مثل التعليم وسوق الشغل.


2. مسارات التنمية وأثر سياسات صندوق النقد الدولي

قدّم صندوق النقد الدولي، على مدار العقود الماضية، توصيات وإصلاحات اقتصادية تهدف إلى دعم الاقتصاد وتحقيق الاستقرار المالي في المغرب، لكنها غالبًا ما أثارت جدلًا واسعًا بين منظمات المجتمع المدني والخبراء الاقتصاديين، الذين يرون أن هذه السياسات قد تؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية.


ساهمت سياسات الصندوق بالمغرب في تحقيق نوع من الاستقرار الاقتصادي، من خلال محافظتها على استقرار الأسعار واحتياطي العملة الصعبة، بالإضافة الى تحسين مستويات الحكامة المالية من خلال ما أقرته من إصلاحات شملت تحرير الاقتصاد وتنويع القاعدة الإنتاجية (مثل صناعة السيارات)، كما إصلاح النظام الضريبي ودعم الشفافية المالية.   


في المقابل، تبقى الإجراءات التي جاءت بها هذه السياسات لتحقيق هذه الغايات ذات أثر مدمر على النسيج المجتمعي وعلى مستقبل فئات عريضة من المجتمع. فقد أثّر الحد من الإنفاق الاجتماعي عبر اعتماد سياسات التقشف بشكل مباشر على جودة الخدمات العمومية (الصحة، التعليم). 


كما ساهمت إجراءات وتدابير النمو الاقتصادي المعتمدة في تحقيق نمو اقتصادي غير شامل وغير متكافئ، حيث تتركز الثروة في قطاعات محدودة ومحددة (الفلاحة، السياحة، الصناعة التصديرية).

هذا ناهيك عن ارتفاع المديونية عبر استمرار اعتماد البلاد على الدين الخارجي وهو ما يهدد بالتبعية المالية ويقلص من فرص الاستقلال الاقتصادي ويرهن مصير ومستقبل الأجيال اللاحقة.


في هذا السياق، أطلق المغرب "النموذج التنموي الجديد" كإطار استراتيجي يهدف إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، مع التركيز على العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق الاقتصادية. ومع ذلك، فإن التفاعل بين سياسات صندوق النقد الدولي ومتطلبات النموذج التنموي الجديد لازال يطرح العديد من الأسئلة والتحديات التي يتوجب الوقوف عندها، من قبيل: 


علاقة سياسة التقشف وأثرها على تدني الخدمات الاجتماعية

غالبا ما تطرح سياسات الصندوق سؤال التقشف المالي في علاقته بالخدمات الاجتماعية، إذ يوصي عادةً بتقليص الإنفاق الحكومي لضبط العجز المالي، وهو ما يؤثر بشكل مباشر في "خفض ميزانيات القطاعات الاجتماعية" مثل الصحة والتعليم ويجعل من تدمير الموازنة الاجتماعية شرطًا لتحقيق الموازنة المالية. وهذا نهج يتعارض مع أهداف النموذج التنموي الجديد، الذي يسعى إلى تعزيز الاستثمار في الرأسمال البشري وتحقيق تنمية شاملة.


علاقة زيادة المديونية وتأثيرها على القرار السيادي الاقتصادي 

كما باقي دول "العالم الثالث"، يعتمد المغرب على القروض الدولية لتمويل مشاريعه التنموية. غير أنه عادة ما تأتي هذه القروض بشروط صارمة وقاسية، تؤثر بشكل أو بآخر على السيادة الاقتصادية للبلاد، كما تساهم في الحد من قدرة الدولة على تنفيذ سياسات اقتصادية مستقلة تتماشى مع أولويات النموذج التنموي الجديد. وهو ما من شانه أن يرهن اقتصاد البلاد ويعزز من تبعيته المطلقة لسياسات الصندوق.


علاقة تحرير الاقتصاد بمصالح الشركات الكبرى

تقوم سياسة صندوق النقد الدولي على التوجه نحو تحرير الأسواق، وهو الأمر الذي يساهم في تعزيز هيمنة الشركات متعددة الجنسيات على مفاصل الاقتصاد المغربي بوصفه اقتصادًا ناشئًا لا يمتلك قدرة تنافسية ولا مقومات الصمود في وجه هذه الماكينات الاقتصادية العابرة للقارات، وهو التوجه الذي يؤدي حتما إلى تراجع دور الدولة في دعم القطاعات الإنتاجية المحلية، في تناقض تام مع أهداف النموذج التنموي الجديد الذي يسعى إلى تعزيز التصنيع المحلي وريادة الأعمال.


3. رهانات النموذج التنموي الجديد في ظل سياسات صندوق النقد الدولي 

أطلق المغرب نموذجه التنموي الجديد سنة 2021 باعتباره إطارًا استراتيجيًا للتنمية، يهدف إلى ما يلي:

تحقيق نمو اقتصادي أعلى (6% سنوياً)

خلق فرص الشغل (خاصة للشباب والنساء)

تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية. 

  تعزيز الرأسمال البشري عبر إصلاح التعليم والصحة. 


غير ان تفعيل وإجراء هذا النموذج على أرض الواقع يصطدم بعدة معيقات، من قبيل: 

ارتفاع المديونية العمومية التي تمتص ما يقارب 70 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي مما يقلص هامش المناورة ويعزز من التبعية للخارج.

ضعف الإنتاجية في القطاعات غير المهيكلة - بالرغم من تحسن مناخ الأعمال - يجعلها دون أثر ملموس على مداخيل الاقتصاد، وهو ما يؤثر على التنافسية الاقتصادية ويحد من فاعليتها. 

وجود قيود مالية صارمة ناتجة عن سياسات ضبط العجز المالي يحد من القدرة على زيادة الاستثمار الاجتماعي ويعيق كل إمكان لتفعيل آليات العدالة الاجتماعية.


إن المغرب مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالعمل على إيجاد حلول اقتصادية متناسبة مع وضعه الاقتصادي، تراعي تميّز وخصوصية اقتصاده الناشئ من جهة، وتحقق التوازن المطلوب في معادلة الاستقرار المالي والتنمية الاجتماعية من جهة أخرى، بعيدًا عن الوصفات النموذجية المعمول بها لدى صندوق النقد الدولي، والتي لا ينظر لها المغاربة بمختلف تعبيراتهم المدنية بعين الرضى، بسبب ما تخلّفه من آثار سلبية على عيشهم اليومي وعلى مصير ومستقبل موارد الأجيال اللاحقة.


لذلك، تتفق منظمات المجتمع المدني في المغرب بمختلف تعبيراتها على أهمية إيجاد حلول وسط بين توصيات صندوق النقد الدولي ومتطلبات النموذج التنموي الجديد لضمان استقرار الاقتصاد دون التضحية بالخدمات الاجتماعية من خلال العمل على:

تعزيز السيادة الاقتصادية وتقليل الاعتماد على القروض الخارجية عبر تنويع مصادر التمويل، تعزيز الاستثمارات المحلية وتطوير الشراكات الاقتصادية الإقليمية. 

إشراك المجتمع المدني في صياغة السياسات الاقتصادية عبر تعزيز الحوار بينه وبين الحكومة ووضع آليات تضمن خدمة السياسات الاقتصادية لجميع فئات المجتمع.

إعادة توجيه السياسات المالية عبر زيادة الاستثمار في الرأسمال البشري والبنية التحتية الاجتماعية. 

تعزيز العدالة الضريبية عبر فرض ضرائب تصاعدية مباشرة على الشركات الكبرى والثروات العليا. 

الانتقال إلى اقتصاد إنتاجي بدلاً من الاعتماد المفرط على القطاعات التقليدية. 


خاتمة

في الوقت الذي يرى فيه صندوق النقد الدولي أن سياساته تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي للمغرب، يسعى النموذج التنموي الجديد بالمغرب إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة. وبين رهانات الطرفين يبقى التحدي الأكبر هو كيفية إيجاد توازن مقبول بين التوازنات المالية والتوازنات الاجتماعية، وضمان سياسات اقتصادية تحقق تنمية اجتماعية حقيقية لجميع فئات المجتمع، وليس فقط المصالح المالية للدولة.

خلاصة القول، أصبح من الواضح أن سياسات صندوق النقد الدولي لا تحقق الغايات التي تعلنها في مواجهة المشكلات الاقتصادية التي تعرفها العديد من الدول والمجتمعات، بل تكون هذه السياسات والوصفات في الغالب عاملًا معيقًا لتطور اقتصادات الدول وعاملًا مفرملًا لطاقاته الإنتاجية ورهاناته التنموية. لذلك، سيكون على الصندوق مراجعة سياساته الاقتصادية وملائمتها لتكون مكملة ومعززة لرؤية تنموية محلية خالصة، وليس العكس، حتى لا يكرر المغرب تجارب التقشف التي عاشها من قبل والتي عمّقتت مزيد من الفوارق بدلاً من حلها.


المراجع

صندوق النقد الدولي. (2023). تقارير مشاورات المادة الرابعة بالمغرب. 

لمندوبية السامية للتخطيط. (2022). تقرير حول النموذج التنموي الجديد.  

البنك الدولي. (2021). تقييم الإصلاحات الاقتصادية في المغرب. 

تقرير المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي لعام 2024

دراسة تحليلية حول الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مراكش وتأثيرها على السياسات الاقتصادية المغربية







احدث المنشورات
May 16, 2025
صندوق النقد الدولي في المنطقة العربية: سرديات الإصلاح ومآزق السياسة - حسن شري
May 16, 2025
الصندوق متلون خطابيا متحجر أيديولوجيا - سلمى حسين