
إعادة التفكير في الحق في المياه في المنطقة العربية - رامي أبي عمّار

إعادة التفكير في الحق في المياه في المنطقة العربية - رامي أبي عمّار
يُعدّ موضوع المياه في المنطقة العربية مصدر قلق متزايد. فوفقًا للتصورات السائدة، تُصنَّف المنطقة على أنها من بين أكثر مناطق العالم معاناة من الإجهاد المائي، إذ تعاني من موارد مائية شحيحة ومتراجعة في ظل تزايد سكاني مستمر. ووفق هذا المنظور، يعيش أكثر من 60% من سكان المنطقة في مناطق تعاني من إجهاد مائي عالٍ أو عالٍ جدًا، وقد انخفض نصيب الفرد من المياه بأكثر من 75% خلال الخمسين سنة الماضية (البنك الدولي، 2018). أما اليوم، فتقع 13 دولة من أصل 22 دولة عربية تحت خط الفقر المائي البالغ 500 متر مكعب للفرد سنويًا (الإسكوا، 2024).
ورغم أن هذه الإحصائيات مقلقة، إلا أن المؤشرات التقليدية لشح المياه غالبًا ما تخفي خلفها قضايا هيكلية أعمق تتعلق بعدم المساواة في الوصول إلى المياه وتوزيعها. فمقاييس الإجهاد المائي العامة لا تعكس الفوارق في استخدام المياه بين المناطق أو بين القطاعات والمجموعات الاجتماعية المختلفة. فالمياه ليست مجرد مورد طبيعي، بل هي جزء لا يتجزأ من العلاقات الاجتماعية والسياسية وحقوق الملكية ورأس المال. إن شح المياه، في هذا السياق، هو نتاج لسيطرة سياسية مركزية، وتسلسل هرمي اجتماعي، وسياسات اقتصادية، وأنماط تنموية (لوفتوس، 2009). وهذه العوامل تؤثر في كيفية توزيع المياه، ومن يملك حق الوصول إليها، وتحت أي شروط. وتجاهل الأبعاد الاجتماعية والبيئية للمياه يعمّق أوجه عدم المساواة ويُسرّع من استنزاف الموارد.
لذا، فإن أزمة المياه ليست مسألة تقنية بحتة، بل تتطلب مراجعة نقدية للنماذج التنموية التي تروج لها المؤسسات المالية الدولية، والتي أدت إلى فرض منطق السوق وهيمنة مركزية على مورد أساسي لطالما اعتُبر من المنافع العامة. وتُشكّل هذه الرؤية الإطار التحليلي لعدد هذا العام من تقرير مراقبة السياسات التنموية في المنطقة العربية الصادر عن شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية (ANND) لعام 2025، بقيادة الباحث الدكتور رولان رياشي.
وقد أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 64/292 (2010) بأن الحق في المياه هو حق إنساني يضمن الحصول على مياه آمنة وكافية ومقبولة ومتاحة ماديًا وبأسعار معقولة للاستخدام الشخصي والمنزلي. وقد فصّل التعليق العام رقم 15 (2002) الصادر عن لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هذا الحق باعتباره ضروريًا لتحقيق جميع حقوق الإنسان الأخرى، وألزم الدول بضمان وصول عادل وغير تمييزي للمياه. ويذهب تقرير 2025 خطوة أبعد، داعيًا إلى اعتبار الحق في المياه حقًا غير مشروط يشمل أيضًا سبل العيش المرتبطة بالمياه ومشاركة المجتمعات في إدارة الموارد المائية بشكل ديمقراطي.
تتمتع المنطقة العربية بتنوع بيئي واسع، مع اختلاف كبير في الموارد المائية والسياقات السياسية والاجتماعية والتقنية والبيئية التي تؤثر على الوصول إلى المياه. ومع ذلك، يمكن تلخيص العوائق الأساسية التي تحول دون تحقيق هذا الحق في ثلاث ديناميات مترابطة: السيطرة الهيمنية، فشل الحوكمة، والنيوليبرالية.
في بعض الدول العربية، تتسم إدارة المياه بسيطرة هيمنية، كما هو الحال في فلسطين، حيث تتحول المياه إلى أداة استعمارية تُستخدم للهيمنة والمعاقبة الجماعية. وهذه الاستراتيجية تشكل جزءًا أساسيًا من حملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة. فمنذ أكتوبر 2023، قطعت إسرائيل بشكل كامل إمدادات المياه عن غزة، بالإضافة إلى الطاقة اللازمة لتشغيل منشآت المياه. واستهدفت قوات الاحتلال بشكل متعمّد البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، ودمرت حوالي 89% منها، بينما استولت على 74% من المتبقي. ونتيجة لذلك، انخفض معدل الوصول إلى المياه بنسبة 94%، وأصبح سكان غزة لا يحصلون إلا على 4.5 لترات للفرد يوميًا، أي أقل من نصف الحد الأدنى الطارئ (أوكسفام، 2024).
كما أشار الدكتور أيمن رابي في مقاله، فإن الحصار المفروض على غزة منذ عام 2007، حتى قبل العدوان الحالي، قد حرم السكان من كميات كافية من المياه وخدمات الصرف الصحي المناسبة، ومنع دخول المواد اللازمة لتطوير البنية التحتية للمياه. والوضع لا يختلف كثيرًا في الضفة الغربية، حيث تسيطر إسرائيل على أكثر من 80% من موارد المياه، وتتحكم في صيانتها وتطويرها. فهي لا تسيطر فقط على المياه الجوفية وتبيعها للفلسطينيين، بل تُخضع الوصول إلى مصادر المياه السطحية لعسكرة تامة، ما يخلق فجوة كبيرة في التوزيع. ويُقدّر أن نصيب الفرد الفلسطيني من المياه النظيفة في الضفة الغربية يتراوح بين 22.4 و73 لترًا يوميًا، مقارنة بـ 369 لترًا يوميًا للمستوطنين (الحق، 2013؛ بنغون، 2021).
في مناطق أخرى من العالم العربي، تأتي السيطرة على المياه كنتيجة مباشرة للسياسات النيوليبرالية، والتي غالبًا ما تعيد إنتاج أنماط استعمارية من استنزاف الموارد، تحرم السكان المحليين من حقهم في المياه. فالخصخصة هي جزء محوري في هذا النهج. فقد أضعفت الإصلاحات النيوليبرالية قدرات الدولة، ودفعت نحو تحويل خدمات المياه إلى مؤسسات ربحية تخضع لنموذج الاسترداد الكامل للتكاليف. وتشير سناء مسلّم في مساهمتها في هذا العدد إلى أن الخصخصة في مدن مثل الدار البيضاء وطنجة في المغرب أدت إلى زيادات مفاجئة في التعرفة، وغياب الشفافية، وإهمال المجتمعات الريفية.
ويظهر نهج السوق أيضًا في تسليع المياه، لا سيما من خلال التوسع الزراعي الموجه للتصدير. وغالبًا ما تكون هذه المشاريع ضعيفة التنظيم، وتروج لزراعة محاصيل كثيفة الاستخدام للمياه، مما يؤدي إلى استنزاف الموارد المحلية، وتدهور معيشة المزارعين الصغار، ويقوّض الأمن الغذائي. وتوثّق هلا مراد في الأردن كيف اضطر كثير من المزارعين الصغار إلى تقليص إنتاجهم أو شراء المياه بأسعار تجارية مرتفعة، مما يرفع التكاليف، ويقلّل من الأرباح، ويزيد الاعتماد على الواردات، في حين يتمتع المستثمرون الكبار بإمكانية الوصول الكافية لري محاصيل التصدير.