Oct 20, 2025
اجندات التنمية العالمية: هل من جدوى لآليات المتابعة الأممية؟ - أديب نعمه
اديب نعمه
خبير ومستشار في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
اديب نعمه

اجندات التنمية العالمية: هل من جدوى لآليات المتابعة الأممية؟ - أديب نعمه

 

غالبا ما تقترن الاجندات التنموية العالمية، العامة والقطاعية، بآليات للمتابعة وقياس التقدم المحقق. والمصطلحات المستخدمة للدلالة على ذلك تتراوح بين الاستعراض، والمتابعة، والرصد، والتقييم، والتصحيح، وهي مفردات تحمل دلالات متدرجة بين المتابعة الشكلية، وبين التقييم النقدي المترافق مع اجراء التصحيحات الضرورية على المسارات والتعديلات على المضمون اذا اقتضى الامر. التركيز غالبا يكون على استخدام مؤشرات كمية لقياس التقدم، او في شكل قائمة تحقق checklist، وهي جزئية بطبيعتها وضعيفة الفعالية عندما يتعلق الأمر بالجوانب الهيكلية او عندما يتعلق الأمر بقياس الأثر.

 

الأمر أكثر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بأجندات لها طابع استراتيجي او عالمي، كما في حالة السيداو CEDAW، اواتفاقية حقوق الطفل، او المراجعات امام مجلس حقوق الانسان، او مسار اجندة 2030 العالمية الراهنة. وسوف نجد تنوعا في آليات المتابعة وفعاليتها بين مسار أممي وأخر، والآليات الأكثر فعالية هي التي تستخدمها هيئات حقوق الانسان.

 

يعود ذلك الى كون هذا المسار يستند الى مجموعة النصوص والمواثيق والاتفاقيات الدولية التي يكون لها طابعا إلزاميا معظم الأحيان، وأنها تشكل مكونا رئيسيا في القانون الدولي وترتبط باتفاقيات توقعها وتصادق عليها الدول وتكون ملزمة لها. ومن أسباب ذلك ان مجمل منظومة حقوق الانسان وآلياتها تمت صياغتها زمنيا منذ بدايات تشكل منظمة الأمم المتحدة، في وهج المناخ المتأثر بدروس الحرب العالمية الثانية، وفي ظل توازن دولي مختلف عما هو عليه اليوم، كان له تجسيد مادي في ثلاثة تكتلات كبرى في الجمعية العامة ومجلس الامن في تلك المرحلة. وقد تمكن المجتمع المدني من بناء تقاليد في الضغط والمناصرة والمشاركة الفعالة من أبرز مجالاتها حقوق الانسان العامة، الحق في تقرير المصير والاستقلال والتحرر من الاستعمار، والحركة الحقوقية النسوية.

 

مع التحولات التي مر بها العالم، ارتخت هذه الآليات وتآكلت فعاليتها على الرغم من استمرارها، لكن القدرة على التأثير وإلزام الدول والحكومات بنتائج المراجعة والتقييم لا تتم بشكل تلقائي.  فقد ضاقت الحكومات ذرعا بهذه الآليات. كما ان التآكل لحق المنظمة الأممية بما في ذلك التآكل الذي حصل في منظومة حقوق الانسان وآلياتها الملزمة، وفي مفهوم التنمية نفسها، وانزياح الأولويات والبارديجم التنموي نحو تغليب البعد الاقتصادي على ما عداه، واستحواذ البعد الاقتصادي على مقاربة الأزمة البيئية بما في ذلك التغير المناخي. وقد سيطر هذا الثنائي الاقتصادي – البيئي على مجمل "العقل المؤسسي العالمي"، متسلحا أيضا بالمقاربة الأمنية – العسكرية التي اندفعت الى مقدمة المشهد اعتبارا من موجة "الحرب على الإرهاب" مطلع الالفية الثالثة. وفي مناخ من هذا النوع، بات أصحاب المصالح الكبرى من دول وشركات عملاقة، يستشعرون فائض قوتهم ويستعرضونه بكل فجاجة في كل المجالات وفي كل مناطق العالم. وقد رحبت حكومات كثيرة في العالم الثالث بذلك، لأنه كان يحررها من ضغط مزعج يصدر عن شعوبها وعن أطراف سياسية او مدنية في بلدانها كانت لا تزال تضغط من اجل المزيد من الديمقراطية والحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن اجل التنفيذ التحويلي والكامل للأجندات التنموية العامة والقطاعية.

 

تجسّد اجندة 2030 للتنمية المستدامة هذا التحول والتآكل في آليات الرصد والتقييم وفعاليتها، وابتعادها عن هدفها الفعلي المتمثل في مواكبة تنفيذ الاجندة التنموية العالمية والتأثير في مسارها اثناء التنفيذ، وتصحيح المسارات حيث يقتضي الامر في الزمن الحقيقي وعدم انتظار انتهاء المدى الزمني المحدد لهذه الاجندة.


بالنسبة الى آليات المتابعة نفسها، لم يستبعد مسار اعلان الالفية – اهداف الالفية بشكل كامل مصطلح الرصد والتقييم. كما انه نص على ضرورة ان تكون التقارير التي تقدمها الدول تقارير وطنية لا تقارير حكومية، وطالبتها بأن تشرك القطاع الخاص والمجتمع المدني في اعداد التقرير الوطني، ولم تمنع منظمات المجتمع المدني من تقديم تقاريرها الخاصة، دون ان تعتمدها في آلية ممأسسة محددة. كما انها اعتمدت آلية تقييم الاقران (peer review) اذ كان يمكن لدول أخرى ان تقوم بمراجعة التقرير الذي تقدمه دولة محددة. لم تكن هذه الآليات شديدة الفعالية في التأثير على السياسات المعتمدة، ولكنها كانت موجودة.

 

اما بالنسبة الى اجندة التنمية المستدامة لعام 2030، فنلاحظ ما يلي:


       1. على مستوى المصطلحات استبعدت اجندة 2030 مفردات مثل الرصد والتقييم في وصف آليات المتابعة التي اعتمدتها، واستخدمت مفردتي "المتابعة والاستعراض" (follow up and review).

        2. اعتمدت اجندة 2030 تسمية الاستعراض الوطني الطوعي للتشديد على الابتعاد عن أي شكل من شكل إلزام الحكومات بتقديم تقاريرها عن التقدم المحقق.

        3. استحدثت اجندة 2030 آلية سنوية للمراجعة والاستعراض على المستوى العالمي هي "المنتدى السياسي رفيع المستوى" حيث يخصص وقت ضيق لكل استعراض وطني في جلسة لمدة نصف ساعة، معظمها لممثلي الحكومة لعرض التقرير، ويشارك ممثلو المجتمع المدني في هذه الجلسات بطرح سؤال او تعليق في دقيقتين من الوقت المتبقي للنقاش.  

 

على امتداد السنوات الماضية، تواصلت مظاهر الفشل والقصور والانتهاكات للطبيعة ولحقوق الانسان والشعوب، كما تواصلت عمليات تقييد الفضاء المدني (بلدان المنطقة العربية هي مثال صارخ على ذلك)، وفي محاصرة مشاركة منظمات المجتمع المدني في المسارات الأممية بما في ذلك داخل منظومة الأمم المتحدة نفسها.

 

فهناك العجز المتكرر عن وقف مسار التغير المناخي بحجة الحفاظ على المصالح الاقتصادية للدول والشركات العالمية العملاقة صارخ على الرغم وصول عدد الاجتماعات السنوية الخاصة بالتغير المناخي والبيئة (الكوب COP) الى ثلاثين. وتمثل قمة اشبيلية لتمويل التنمية التي انعقدت في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2025 مثلا إضافيا على تقييد مشاركة المجتمع المدني في مسار القمة والتأثير على مخرجاتها التي كانت دون الطموح ودون مستوى المشكلات التي تواجه تمويل التنمية. كما ان المسار الحالي للتحضير للقمة الثانية للتنمية الاجتماعية المقررة في قطر في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2025 غير مبشرة أيضا لجهة المضمون الذي سيقتصر على اعلان سياسي ضعيف كما يبدو من خلال المسودة الأخيرة، كما انها غير مبشرة لجهة آليات مشاركة المجتمع المدني ومجمل إجراءات التحضير وانعقاد المؤتمر غير الواضحة حتى اللحظة.

 

اذا كان المسار العالمي والإقليمي والوطني تراجعيا على هذا النحو، ما العمل لكي نتجاوز هذه الصعوبات ولكي يستعيد المجتمع المدني بعض القدرة على التأثير التي تمتع بها بشكل متقطع منذ تسعينات القرن الماضي في سياق المسارات الأممية؟ وكيف يمكن إقامة التوازن المناسب بين تعظيم الاستفادة من هذه المسارات والعمل على تعديلها وتجاوزها في آن؟ وهل لا تزال هناك إمكانية للتأثير فيها وتحقيق فائدة ما من استخدامها، ام بات من الأفضل مقاطعتها او تجاوزها من خلال آليات بديلة؟ وما هي هذه البدائل؟

 

في الجواب على هذه الأسئلة يخطر في البال التوجهات التالية:


        1. عدم تجاهل هذا الواقع، ومواجهة محاولات الاستيعاب وحصر مقاربة ومواقف منظمات المجتمع المدني ضمن السقوف التي يضعها التيار الرئيسي في النظام، والاقرار بأن المضامين السابقة الأكثر تقدما وحيادية لمنظمة الأمم المتحدة واجراءاتها، قد تآكلت الى حد كبير، وان المنظمة الأممية نفسها باتت اكثر تأثرا بخيارات الدول الكبرى الممولة، وبخيارات ومصالح الشركات العالمية ومجتمع الاعمال.

        2.  بقدر ما قد يبدو خيار مقاطعة المسارات الأممية غير مفيد، وغير ممكن، فإن خيار القبول بالسقوف الموضوعة سواء من قبل الأمم المتحدة او مؤسساتها ووكالاتها المتعددة غير مفيد أيضا.  قد تتوفر عوامل ذاتية على المستوى الإقليمي او الوطني لإحداث تقدم ما في الاجندات او الممارسات الإقليمية او الوطنية (او قد يكون العكس). كما انه يمكن ان مقاطعة بعض المؤسسات او الجهات ومواجهتها علنا بذلك لاسيما الجهات التي تنتهك الحقوق او تفرض مشروطية سياسية مباشرة على عمل المنظمات.

        3. لا يمكن ان تحقق أي نجاح اذا كان مبادرات منفردة. ان التشبيك وبناء الائتلافات العابر للاختصاصات على المستوى الوطني والإقليمي، وتوسيع التحالفات الدولية، هو شرط ضروري والزامي من اجل النجاح في الظروف الراهنة. ويجب ان يترافق ذلك أيضا مع تقدم في مواقف العدد الأكبر من المنظمات نحو مقاربة تحويلية اكثر جذرية، وعدم الاكتفاء بدور المقاول في تنفيذ المشاريع، والقبول في المخاطرة في رفض التمويل المشروط سياسيا والذي يتعارض مع الأولويات الوطنية.

        4. البحث الجدي في كيفية ردم الهوة وإزالة الحواجز التي تعيق الحركة والتعاون والتكامل بين مختلف مكونات المجتمع المدني وتنظيماته واشكال عمله: التكامل العابر للقطاعات والتخصصات، وبين الجمعيات والنقابات على اختلافها، ومع الحركات الاجتماعية، وكيفية التفاعل والمشاركة الفعلية في الحراك الشعبي الذي يتخذ طابعا سياسيا كما في موجتي الربيع العربي الأولى والثانية.

        5. البحث الجدي في خطاب تنموي جديد يشمل كل الابعاد، من منظور اكثر التصاقا بالمجتمع وبالمستقبل والتغيير، بما في ذلك مقاربة العلاقة بين المدني والسياسي في مسار التغيير من منظور حقوق الانسان والتنمية، وصولا الى انفاذ الحق في تقرير المصير والحق في التنمية.


وهذه كلها أفكار يمكن ان تكون، وغيرها، محل تفكير مشترك ضروري في هذه المرحلة، من اجل بلورة استراتيجيات اكثر فعالية في تحويل عالمنا.

 

 

احدث المنشورات
Oct 20, 2025
القمة العالمية للتنمية الاجتماعية: بعد ثلاثين عامًا… الحاجة إلى مقاربة جديدة قائمة على العدالة والمساواة - زياد عبد الصمد
Sep 30, 2025
النشرة الشهرية لشهر آب/أغسطس 2025 - وجوه الديون المتعددة: التحديات والبدائل